استراتيجية الحركة الإسلامية .. لتصفية الثورة وتفكيك الدولة تحت غطاء الحرب (3 3)

محمد عبدالله ابراهيم
منذ عقود طويلة دأبت الحركة الإسلامية في السودان على الاستثمار في الحروب، وزرع الفتن وتأجيج الانقسامات وتغذية العنف في المجتمعات السودانية، لتشكيل واقع يتناسب مع مشروعها السلطوي، وما نشهده اليوم من حرب ودمار وخراب ليس سوى تتويج لمسيرة طويلة من العبث بالدولة والمجتمع، تسعى من خلالها الحركة الاسلامية إلى إعادة إنتاج النظام القديم، وتصفية أي أمل في إقامة دولة ديمقراطية تعبر عن تطلعات السودانيين في الحرية والسلام والعدالة والمواطنة المتساوية.
منذ سقوط نظامهم في أبريل 2019م، لم يخفي قادة الإسلاميين نواياهم؛ فقد عبرت تصريحاتهم وتهديداتهم قبل اندلاع حرب 15 أبريل 2023م، عن غضبهم ضد التغير الذي افضى الى اسقاطهم، ورفضهم الصريح لأي تسوية سياسية تخرجهم، وعلى رأسها الاتفاق الإطاري، الذي تعهدوا بإفشاله وتغيير موازين القوى وفرض واقع جديد لا مكان فيه لمن لا يحمل السلاح، وتلك التصريحات لم تكن مجرد جعجعة، بل تمهيد ممنهج لحرب خططوا لها منذ ان اسقطهم الشعب، وبدأت تتجلى عبر تحركات مريبة واجتماعات سرية وتجمعات للتعبئة، والخروج في مظاهرات، خاصة ما يسمى بـ”الزحف الأخضر”، وهي مظاهرات كانت تهدف الى تقويض الحكومة الانتقالية التي كان يقودها الدكتور عبد الله حمدوك، وكان بعض قيادات الإسلاميين حتى قبل أيام قليلة من اشتعال الحرب، يدعوا المواطنين علنا إلى إجلاء أسرهم من الخرطوم.
في خضم هذه الحرب، أصبح حضور الإسلاميين أكثر وضوحاً وصخباً من أي وقت مضى، حيث يظهر مقاتلوهم في تسجيلات مرئية متزامنة مع كل تقدم للجيش، يرفعون شعارات الحركة الإسلامية، ويهددون معارضيهم من قوى الثورة، وكل من يجرؤ على الدعوة والمطالبة بوقف الحرب من القوى السياسية والمدنية، وهذه المواقف تتسق تماماً مع تصريحات قادة الجيش أنفسهم، ففي لحظة فارقة أعلن ياسر العطا، نائب القائد العام للجيش، والمشرف الرئيسي لـ”كتائب البراء”، امام احد الحشود العسكرية قال بفخر؛ “نحن فلول وإسلاميون وكتائب براء”، أما قائد الجيش البرهان، في اخر تصرح له قبل أيام من بورتسودان، صرح قائلاً؛ “لا مجد للساتك بعد اليوم، المجد فقط للبندقية”، وقائد الجيش يدرك مغذى تصريحه الذي يشير بوضوح الى ثورة ديسمبر المجيدة التي أطاحت بنظام الإسلاميين في ابريل 2019م، حيث اعتاد المتظاهرون خلال الحراك الثوري على حرق اللساتك في الشوارع العامة لمنع قوات الامن من التقدم والوصول اليهم وقمعهم، ومن خلال تصريحه يريد البرهان القضاء على رمزية “الساتك” أحد أشهر رموز ثورة الشعب السوداني المجيدة في ديسمبر، ويعد تمهيداً لطمس الذاكرة الثورية وتبرير عسكرة الدولة مجدداً.
لقد تحولت الحرب إلى أداة إسلامية بامتياز للعودة إلى المشهد من بوابة ما يسمى بـ”محاربة التمرد، واستعادة الكرامة الوطنية”، بينما في الواقع، ان الإسلاميين يريدون تصفية الثورة واحتكار السلطة، ولعل الأخطر من ذلك هو سيطرتهم الفعلية على قرار الجيش، وتحكمهم بمسار المعارك من خلال كوادرهم المنتشرة في جميع مناطق سيطرة الجيش، وإجهاضهم لكافة المبادرات الساعية إلى إيقاف الحرب.
هذه الحرب من منظور الحركة الإسلامية، ليست مجرد نزاع مسلح، بل أداة استراتيجية تنفيذية تمثل الوسيلة النهائية لإزاحة خصومهم السياسيين، وتصفية قوى الثورة التي ازاحتهم من الحكم، تفكيك الدولة وتدمير المدن، وتمزيق النسيج الاجتماعي، ومن ثم إعادة هندسة الدولة تحت ما يسمى بـ”حرب الكرامة” ومحاربة التمرد، بما يخدم سلطتهم وامتيازاتهم وبناء واقع يتيح لهم العودة إلى الحكم والسيطرة الكاملة من جديد، ومن خلال اختراق مؤسسات الدولة، وبناء شبكات اقتصادية موازية وتشكيل تحالفات داخل الجيش، أعادت الحركة الإسلامية تموضعها بذكاء خبيث، واستخدمت خطاباً مزدوجاً؛ وطنياً/دينياً للرأي العام، وسرياً/تمكينياً في الكواليس، وما يجري على الأرض اليوم من تعيينات وتعيينات مضادة، وعودة رموز النظام السابق لمواقع القرار، هو دليل صارخ على هذا المشروع، وكأن الثورة لم تكن وكأن دماء الشهداء لم تسفك، وما الحرب الحالية إلا مسرح لتصفية الحسابات مع رموز الثورة والناشطين، وإعادة السيطرة على مفاصل الدولة عبر بوابة الجيش، ولان الحركة الإسلامية لا تؤمن بالمراجعة أو المحاسبة أو الديمقراطية، لذلك تعتبر الدولة غنيمة ومجتمعها “رعية” يجب إخضاعها للسمع والطاعة باسم الدين.
أخطر ما في هذا المشروع، فهو محاولته تزييف الوعي، وشيطنة كل من يطالب بالسلام أو الحكم المدني أو العدالة، ويصور كخائن أو عميل أو “داعم للتمرد”، وهذا الخطاب الذي تشربه إعلام الإسلاميين منذ انقلاب 1989م، تم أعاد إنتاجه اليوم بوسائل أكثر فتكاً، ويبرر للبطش والقمع ويحرض على العنف والكراهية الدينية والسياسية والعرقية، وهذا كله في سياق عملية غسل الادمغة، وشيطنة الثورة وتزييف الارادة.
ولكنه، رغم المذابح والنزوح والدمار لم تنكسر إرادة السودانيين، فصوت الثورة لا يزال يتردد في الهتافات، وفي مبادرات لجان المقاومة وفي نضال السودانيين داخل الوطن وخارجه، وهذه الحرب رغم فظاعتها، الا انها كشفت الجوهر الحقيقي لهذا المشروع الإقصائي، وأسقطت أقنعته الزائفة ووضعت المجتمع الدولي والعالم أمام مسؤولياتهم، ووضعت قوى الثورة أمام لحظة فارقة لإعادة التنظيم والتماسك والصمود.
آن الأوان للعالم أن يسمع الحقيقة كاملة؛ هو ان السودان لا يخوض حرباً أهلية طبيعية، بل يواجه مشروعاً انقلابياً مؤدلجاً، يسعى لإعادة عجلة التاريخ إلى الوراء، لتمكين منظومة دمرت البلاد لثلاثة عقود، وعادت اليوم لتكمل ما بدأته تحت راية الخداع الديني والاصطفاف العسكري.
إن المعركة الحالية هي معركة وجودية بين مشروعين؛ مشروع يسعى لإعادة السودان إلى عصور الظلام والاستبداد باسم الدين، ومشروع شعبي حر يسعى لبناء دولة الحرية والسلام والعدالة والمواطنة والكرامة، وإن انتصار المشروع الأخير هو أمل جميع بنات وابناء الشعب السوداني، وواجبنا اليوم هو التمسك به، وفضح تحالفات هذه الحرب، والمطالبة بحماية المدنيين ومحاسبة مجرمي الحرب من جميع الاطراف المشاركة فيها، وإعادة بناء الحركة الجماهيرية على أسس جديدة، تستفيد من التجارب الماضية وتتمسك بالمبادئ الوطنية، وتستعد للمرحلة القادمة، رغم أن الطريق ليس سهلاً ولكن النصر فيه حتمي.
المجد للساتك .. والمجد للثورة .. والخلود للشهداء .. ولا صوت يعلو فوق صوت الشعب.
[email protected]
المصدر: صحيفة الراكوبة