أعادت الانتهاكات التي شهدتها مدينة الفاشر بولاية شمال دارفور، ومدينة بارا بولاية شمال كردفان، إلى الأذهان الفظائع التي ارتكبها طرفا النزاع في السودان ضد المدنيين في مناطق تبادل مواقع السيطرة، ليكون المدنيين هم الضحايا تحت ذريعة التعاون والتخابر مع أحد الأطراف.
الخرطوم: التغيير
بعد إعادة السيطرة من قبل طرفي النزاع على المناطق والمدن في السودان، ظهرت انتهاكات جسيمة ارتكبها طرفا النزاع في السودان، الجيش وقوات الدعم السريع، ضد المدنيين. وشملت هذه الانتهاكات القتل العشوائي، والنهب، والاغتصاب، والاختطاف، خاصة في مناطق دارفور وكردفان.
اتهمت منظمات حقوقية قوات الدعم السريع بارتكاب مجازر وتصفيات على أساس عرقي في مدينة الفاشر بولاية شمال دارفور، بعد إعلان قوات الدعم السيطرة على المدينة الأحد الماضي، عقب حصار استمر نحو عامين، منعت خلاله وصول الغذاء والدواء للمدنيين.
مقتل ألفي مواطن
ولم تكتفِ هذه القوات بالسيطرة على المدينة، بل مارست أبشع الانتهاكات ضد الأطفال والنساء وكبار السن. وقالت لجان مقاومة الفاشر إن قوات الدعم السريع قتلت ألفي مواطن في مدينة الفاشر، مشيرةً إلى أن آلاف المدنيين ما زالوا في عداد المفقودين.
كما أكدت اللجان أن قوات الدعم السريع قامت بتصفية جميع الجرحى في المستشفى السعودي.
من جهته، قال حاكم إقليم دارفور مني أركو مناوي إن قوات الدعم السريع صفّت أكثر من 450 من المرضى الذين كانوا داخل المستشفى السعودي بالفاشر.

إعدامات مروعة
وقالت المفوضية الأممية لشؤون اللاجئين، الثلاثاء، إنها تلقت تقارير عن “إعدامات مروّعة” و”عنف جنسي استهدف النساء والفتيات” ارتكبته “مجموعات مسلحة أثناء الهجمات وعلى المجموعات الفارة”.
وأعربت المفوضية عن قلقها من “تصاعد أعمال العنف الوحشية” منذ سقوط المدينة، مشيرةً إلى “الخوف الشديد الذي يعيشه السكان بعد صمودهم طوال 500 يوم من الحصار”. وبحسب المنظمة الدولية للهجرة، لا يزال نحو 177 ألف مدني في المدينة ومحيطها.
ولقيت المجازر التي أقدمت عليها قوات الدعم السريع في الفاشر إدانات واسعة محلية وإقليمية ودولية، وطالبت تلك الجهات بضرورة تقديم الجناة إلى العدالة حتى لا يفلتوا من العقاب كما حدث في السابق في جرائم مشابهة.
وسبق أن ارتكبت قوات الدعم السريع جرائم مماثلة في مدينة زالنجي عاصمة ولاية وسط دارفور، والجنينة عاصمة ولاية غرب دارفور، والعاصمة السودانية الخرطوم، وامتدت إلى ولايتي الجزيرة وسنار في يونيو الماضي، ولا تزال تمتد إلى الجزء الشمالي من ولاية النيل الأبيض، وولايات شمال وغرب وجنوب كردفان.
وتواجه قوات الدعم السريع اتهامات بارتكاب عنف عرقي مروّع في الجنينة أودى بحياة نحو 15 ألف شخص، من بينهم والي غرب دارفور خميس أبكر، الذي مثّلت القوات بجثته، وهي جرائم قد ترقى إلى “جرائم حرب وجرائم ضد الإنسانية”.
انتهاكات بارا
وفي مدينة بارا الاستراتيجية بولاية شمال كردفان، ارتكب طرفا النزاع انتهاكات واسعة في حق المدنيين من قتل وتهجير قسري. وعندما سيطر الجيش على المدينة، ارتكب انتهاكات ضد المدنيين، وبعد أن استعاد الدعم السريع السيطرة على المدينة الاستراتيجية، ارتكب الجرائم ذاتها بحق المدنيين بتهمة التعاون والتخابر مع الجيش السوداني.
واتهمت شبكة “أطباء السودان” ومجموعة “محامو الطوارئ” قوات الدعم السريع بتصفية مدنيين في مدينة بارا.
وقال الناطق باسم شبكة أطباء السودان، محمد فيصل، لـ(التغيير) إن قوات الدعم السريع قامت بتصفية 47 مواطنًا في مدينة بارا، اتُّهموا بالتعاون مع الجيش، من بينهم نحو تسع نساء.

من جهتها، قالت مجموعة “محامو الطوارئ” في بيان، إن أحياء بارا “شهدت عمليات تصفية جماعية راح ضحيتها المئات من السكان، معظمهم من الشباب، إلى جانب حملات اعتقال ونهب وتخريب طالت الممتلكات العامة والخاصة وسط انقطاع كامل لشبكات الاتصال والإنترنت”.
وأكد البيان أن تلك الاعتداءات أدت إلى نزوح جماعي واسع للسكان نحو القرى والمناطق المجاورة، في حين لا يزال عدد كبير من المواطنين في عداد المفقودين.
فيما حملت مجموعة “محامو الطوارئ” قيادة قوات الدعم السريع “المسؤولية القانونية الكاملة عن هذه الجرائم والانتهاكات”، ودعت “المجتمع الدولي وبعثة الأمم المتحدة والمنظمات الحقوقية الإقليمية والدولية إلى التحرك العاجل لوقف المجزرة وحماية المدنيين”.
انتهاكات الجيش
وفي وقت سابق، اتُّهم الجيش السوداني بارتكاب انتهاكات ضد المدنيين بعد تبادل السيطرة مع قوات الدعم السريع.
وشملت هذه الانتهاكات قطع رؤوس أربعة طلاب في الأبيض بدعوى دعمهم لقوات الدعم السريع، وتصفية عشرات المدنيين في الكنابي منازل العمال الزراعيين عقب سيطرته على ولاية الجزيرة، كما أُلقي بشباب داخل النيل بعد إطلاق الرصاص عليهم، مما أثار إدانات واسعة.
وطالب ناشطون ومدافعون عن حقوق الإنسان بالتحقيق في هذه الحوادث وتقديم الجناة إلى العدالة لمنع تكرارها. وفي ذلك الوقت، شكّل قائد الجيش عبد الفتاح البرهان لجنة تحقيق في حادثة الكنابي، لكن نتائج اللجنة لم تُعلن حتى الآن.
وعلى ضوء ذلك، فرض الاتحاد الأوروبي في يوليو الماضي عقوبات على أبو عاقلة كيكل، قائد قوات درع السودان، الذي انضم إلى الجيش في عام 2024 بعد انشقاقه من قوات الدعم السريع، بسبب ارتكاب “انتهاكات جسيمة لحقوق الإنسان وتهديدات للسلام والاستقرار والأمن في البلاد”.
واعتبر الاتحاد الأوروبي كيكل مسؤولًا عن استهداف “الكنابي”، وهي قرى مهمشة مبنية من مواد أولية وتحيط بمدن رئيسية في ولاية الجزيرة التي تحتضن أكبر مشروع زراعي في البلاد.
ولم تتوقف انتهاكات الجيش في ولاية الجزيرة، بل امتدت إلى ولاية الخرطوم بعد إعلان خلوها من قوات الدعم السريع، حيث مارست الكتائب الإسلامية التي تقاتل إلى جانبه انتهاكات ضد مواطني جنوب الحزام، والشباب العاملين في غرف الطوارئ التي تشرف على المطابخ الجماعية “التكايا”، خاصة في مناطق الحلفايا والمزاد ببحري والجريف وجنوب الحزام بمحلية الخرطوم وجبل أولياء.

ذريعة التعاون
وعن استمرار الانتهاكات ضد المدنيين من طرفي النزاع في السودان في حال تبادل السيطرة، قال الخبير القانوني خلف الله عبد الله لـ(التغيير) إن هناك نمطًا ممنهجًا من الانتهاكات تُرتكب ضد المدنيين من طرفي النزاع تحت ذرائع التعاون.
وأشار إلى أن هذه التهم تُستخدم بشكل عشوائي وبدون أي أدلة قانونية، ما يجعل المواطنين في هذه المناطق عرضة للاعتداءات.
وأكد عبد الله أن استمرار الانتهاكات ضد المدنيين في مناطق سيطرة الطرفين يفاقم معاناة السكان ويعزز استمرارية العنف.
ولفت إلى أن طرفي النزاع لم يتخذا أي إجراءات لتوقيف المتورطين في الانتهاكات رغم وجود مقاطع فيديو توثق الجرائم بوضوح.
وقال إن استمرار غياب المساءلة والعقاب يشجع على تكرار الانتهاكات، مبينًا أن العالم ظل يتفرج على المجازر التي تُرتكب بحق المدنيين، داعيًا مجلس الأمن والمجتمع الدولي إلى تحرك صارم وفوري لمنع المزيد من الانتهاكات.
تشفي وانتقام
إلى ذلك، ترى أخصائية علم النفس مروة محمد إبراهيم، أن التشفي والانتقام من المدنيين من منظور نفسي ينبعان من رغبة في إثبات القوة وأخذ الحقوق المتصوَّرة، خاصة بعد الخسائر السابقة كما حدث في الفاشر.
وقالت إبراهيم لـ (التغيير) إن القوات عندما تدخل مناطق جديدة تحاول إظهار القوة والسيطرة، وتمارس الانتقام ضد المدنيين الأبرياء الذين لا ذنب لهم، حيث تستهدف هذه الأفعال النساء والأطفال بهدف إخضاع المواطنين، خاصة الرجال.
وأضافت أن الهدف من هذه التصفية هو إخافة الآخرين وإضعافهم، رغم علمهم بأن هؤلاء المدنيين أبرياء ولا علاقة لهم بالحرب.
وأشارت إلى أن هذه الأفعال تتسم بالبشاعة ولا تمت للإنسانية بصلة، إذ تشمل الذبح وقطع الرؤوس وبقر البطون. وهذه الأساليب تعكس محاولة لإظهار القوة وإضعاف الآخرين نفسيًا، لأن سياسة الترهيب تعتمد على القتل بطرق غير إنسانية.
وعلى الرغم من الدعوات المستمرة من المنظمات الحقوقية والأمم المتحدة لحماية المدنيين ومحاسبة المسؤولين عن الانتهاكات، ووقف إطلاق النار الفوري وإيصال المساعدات الإنسانية إلى المناطق المتضررة، إلا أن الانتهاكات تزداد بشكل متكرر كلما سيطر أحد طرفي النزاع على منطقة أو مدينة، حيث يستهدف المدنيين انتقامًا وتشفيًا.
المصدر: صحيفة التغيير