اتفاق “صمود” وحكومة بورتسودان وحكومة الدعم السريع وآخرين

في السودان، يكشف الواقع تحديات جسيمة؛ حيث تتجنب الكيانات السياسية الفاعلة كحكومة بورتسودان والكيانات المؤيدة لها، إلى جانب الأحزاب الناشطة مثل الحزب الشيوعي السوداني والكثير من منظمات المجتمع المدني والفصائل المنقسمة حديثًا عن تحالف “تقدم”، والتي تضمنت فصيلاً أُطلق عليه “صمود” وآخر يستعد لتشكيل ما اسموه بـ”حكومة السلام”، كل هذه الكيانات تتجنب التعامل الصريح مع مفهوم العلمانية ضمن رؤاها و منهجياتها السياسية. بدلاً من ذلك، يفضلون استخدام لغة مبهمة تفتقر إلى تأكيد حقيقي على العلمانية وماتعنيه دون لبس ومن ثم على المواطنة المتساوية. هذا التردد يعكس الابتعاد عن التعامل الجاد مع قضايا الهوية والمواطنة في السودان، حيث يؤثر الدين والعرق بشكل ملحوظ في تشكيل السياسات العامة.
في ظل تاثير التنوع الديني والعرقي والثقافي المتزايد في السودان، يصبح السؤال حول كيفية تحقيق المواطنة المتساوية ضمن إطار الدولة الحديثة المرتقبة أكثر إلحاحًا. العلمانية الديمقراطية توفر حلاً محوريًا لهذه المشكلة، إذ تعتبر الفصل بين الدين والدولة أساسيًا لضمان المساواة والتعامل الحيادي مع جميع المواطنين، دون التمييز على أساس الدين، الإثنية، أو أي خصائص واختلافات أخرى.
وثائق الكيانات السياسية السودانية تحمل دعوات لإعادة بناء الدولة السودانية على أسس جديدة والعودة إلى منصة التأسيس، لكنها تفشل في التخلي عن مفاهيم ماتسمى بـ “الثوابت” التي تفترض أن السودان دولة عربية إسلامية منطلقا. هذا الافتراض ينطوي على مشكلات جوهرية، إذ يعتمد بوعي وقصد او بدونهما على فرضية أن المواطنة الكاملة لا يمكن أن تشمل السودانيين الغير مسلمين أو الأقليات الإثنية، وهو ما يخلق تفرقة في الحقوق والواجبات.
إن عدم تبني العلمانية من قبل هذه المجموعات هو بمثابة عدم اقرار بالحقوق المتساوية بين جميع السودانيين وتأكيد على الرفض الضمني للمواطنة المتساوية. هذا النهج يشكل عنصرية ضمنية، حيث يعتبر غير المسلمين والأفراد من الأقليات الإثنية كمواطنين من درجة ثانية. هذه الممارسات تذكرنا بالتجارب الأليمة في السودان الحديث و الوحشية في تطبيق احكام الشريعة انتقائيا، حيث يُنظر إلي أبناء وبنات الهامش من غير المسلمين كأقل من البشر بناءً على سحنتهم وهويتهم العرقية.
الجدير بالذكر ان الكثير من الفلاسفة والمفكرون القانونيون مثل جون لوك وشارلز تايلور قدموا مساهمات كبيرة في فهم العلاقة بين الدين والدولة. لوك، في تأملاته حول التسامح الديني، أكد على ضرورة الفصل بين الكنيسة والدولة لضمان حرية العبادة والمساواة. تايلور، من جانبه، ناقش كيف أن التنوع الديني يمكن أن يعيق السياسة العامة إذا لم يتم إدارته ضمن إطار علماني يضمن المساواة للجميع، وقد برز في الآونة الأخيرة الكثير من قادة الراي السودانيين متبنين لأفكار الاستنارة.
وفي السياق السوداني، الدعوة للعلمانية ليست مجرد مطلب سياسي بل هي ضرورة لحل الصراعات السياسية التي تتقاطع مع الديني والاثني التي عصفت بالبلاد حروبا وتمزقا لعقود. هنا يجدر الإشارة الي ان الحركة الشعبية لتحرير السودان شمال، على سبيل المثال، دعت مرارًا وتكرارًا إلى تبني العلمانية كاحد اهم دعائم حل الأزمة السودانية، معتبرة أن فصل الدين عن الدولة يوفر أرضية مشتركة لجميع المواطنين.
المواطنة في الدولة العلمانية تمثل الأساس لضمان العدالة والمساواة، إذ تضمن لجميع الأفراد، بغض النظر عن خلفياتهم الدينية أو العرقية، الحقوق والواجبات نفسها. الدساتير في الدول العلمانية تدعم قانونيًا حرية الدين والمعتقد، وتعتبر التمييز على أساس الدين أو العرق جريمة يُعاقب عليها القانون، وهذا مايجب ان يبني عليه السودان الجديد.
تجارب دول مثل الهند، تركيا، وإندونيسيا تظهر كيف يمكن لالتزام الدول بمبادئ العلمانية تعزيز المواطنة الشاملة ودعم التنوع داخل المجتمع. في الهند، تُستخدم العلمانية كأداة لحماية حقوق الأقليات الدينية والعرقية في بلد يتسم بتنوع ديني هائل. في تركيا، حيث الأغلبية مسلمة، نجحت العلمانية في توفير إطار للحياد الديني يحمي حقوق جميع المواطنين ويدعم التطور الديمقراطي. أما إندونيسيا، فعلى الرغم من كونها دولة ذات أغلبية مسلمة كبيرة، فإنها تتبنى نهجًا علمانيًا يضمن حقوق جميع مواطنيها بغض النظر عن الانتماء الديني، مما يعزز الوحدة الوطنية والتماسك الاجتماعي، والكثير من الدول ذات الأغلبية المسلمة ادركت ان نجاحها يكمن في تبني العلمانية.
التحديات القائمة في السودان تشير إلى أنه رغم الاعتراف الضمني بأهمية العلمانية من قبل النخب السياسية في الغرف المغلقة، فإن الكيانات السياسية في السودان تتهرب جماهيريًا وبصراحة من تبني هذا المفهوم في أجنداتها السياسية. هذا النفاق يعبر عن تباين عميق في الموقف من مواجهة جذور المشكلات التي أدت إلى التدمير الشامل للدولة السودانية، حيث تلعب التقاطعات الدينية والعرقية دورًا كبيرًا في تشكيل السياسات العامة التي تحولت إلى سياسات ذات صبغة إقصائية وعنصرية ماسّية أدت إلى تهميش ممنهج تجلّت آثاره في الحروب الدائرة اليوم في السودان.
في سياق الواقع السياسي المعقد في السودان، يبرز الانقسام الحديث داخل تحالف “تقدم”، الذي تم الترويج له كأحد أكبر التحالفات السياسية المدنية في تاريخ السودان. هذا التحالف انشق إلى مجموعتين، إحداهما أطلقت على نفسها اسم “صمود”، والثانية تعتزم تشكيل حكومة بمشاركة قوات الدعم السريع/الجنجويد. ورغم اختلافهما حول تشكيل حكومة لمنازعة حكومة بورتسودان، إلا أن كلاهما تجنبتا إدراج العلمانية كجزء أساسي من رؤيتهما لمستقبل السودان. تتشارك هاتان المجموعتان مع حكومة بورتسودان، التي تشمل في تكوينها مجموعات إسلامية متشددة، في موقف مشترك يتمثل في التهرب من الإقرار بالعلمانية كاهم كجذر للمشكلات السياسية والاجتماعية في البلاد.
يعد هذا الموقف دليلًا على تجنب هذه الكيانات لمواجهة أساسية تتعلق بتحقيق المواطنة المتساوية وتعزيز الديمقراطية. على الرغم من أنهم يطرحون مجموعة من القضايا المتعلقة بالحكم والسلطة والسيطرة على الموارد، فإن رفضهم للعلمانية يكشف عن إغفال عميق للحاجة إلى فصل الدين عن الدولة كشرط أساسي لضمان حقوق متساوية لجميع المواطنين، بغض النظر عن الدين أو العرق. هذا الوضع يؤكد على الحاجة الملحة للتعامل مع العلمانية كضرورة تاريخية لإنهاء دائرة الصراعات والعنف التي تغذيها الانقسامات العرقية والدينية. بدون الاعتراف بالعلمانية وترسيخها ضمن الأسس الدستورية، ستظل فكرة المواطنة المتساوية مجرد شعار بلا مضمون، مما يعيق بشكل جوهري أي تقدم نحو بناء دولة سودانية مستقرة ومزدهرة.
في الختام، النداء الملح لتبني العلمانية في السودان لا ينبع من نقاش نظري حول الحقوق المدنية فحسب، بل يمثل ضرورة قصوى لتأسيس دولة حديثة ترسخ مبادئ المساواة والعدالة لجميع المواطنين. في غياب العلمانية الديمقراطية، ستبقى البلاد غارقة في دوامة من الصراعات والانقسامات الداخلية التي تعوق أي تقدم نحو الاستقرار والتنمية المستدامة. الموقف من العلمانية يعد مؤشرًا حاسمًا للموقف من المواطنة المتساوية؛ وبالتالي، رغم اختلافات حكومة بورسودان ومجموعات تحالف “تقدم” وأطراف أخرى في الساحة السياسية حول عدد من قضايا السلطة والحكم، فإن توافقهم على تجاهل أسس العلمانية يعني بوضوح موافقتهم المستترة على استمرار وجود السودان كدولة تميز بين مواطنيها، وتنفذ سياسات تمييزية على أسس عرقية ودينية. وهنا تكمن المعضلة الأساسية، يختلفون في الكثير ويتفقون علي تقسيم المواطن السوداني علي افتراض ثوابت تقسم الناس بناء علي هويتهم الدينية والاثنية الي مواطنين من الدرجة الاولي والثانية والثالثة ومادون!
المصدر: صحيفة الراكوبة