إنهيار دولة الجلابة
دكتور الوليد آدم مادبو
“ليس إلا القممُ الشاهقةُ الصمَاءُ
تُعطِي صدرَها العارِي لنيرانِ الغزاةْ!”
(فضيلي جمّاع: كاوْدا صَخْرةُ الصُّمود!)
يتعلل غلاة الجلابة (نخب شمال السودان الفكرية والسياسية والاقتصادية والإعلامية والعسكرية والأمنية) في دفاعهم عن الجيش رغم فساده بأنه الوسيلة الوحيدة للإبقاء على “الدولة” والحفاظ على هيبتها. علماً بأن هذه الدولة قد تلاشت، غابت واضمحلت عراها قبل عقود مضت ولم تعد تحمل عبقاً في قلوب الناس ولا أفئدتهم ولكم تمنى الناس زوالها بعد أن أثقلت عليهم بالضرائب والأتاوات التي لا يجدون مقابلها خدمات، إنما تفلت وتهرب من القانون، وتعدي على الحقوق والحريات. لقد ظلت الدولة تحمل بذرة الفساد والاستبداد في داخلها، بيد أن عقوداً من المهنية والمؤسسية وجيلاً من الرجال الأفذاذ الذين اتسموا بالنزاهة الأخلاقية، ممّن تأهلوا وللأمانة على يد المستعمر، قد حال دون تنامي تلكم البذرة الفاسدة حتى سطت “الإنقاذ” وهيمنت على مفاصل الدولة ممّا وفّر مناخاً فضح كل التناقضات وأبرز عورات وتشوهات دولة ال Apartheid الوحيدة المتبقية في إفريقيا.
لقد سعى الجلابة، والذين اتخذوا من شعوب الشمال رافعة سياسية وإجتماعية دون أن يكون لهذه الفئة ولاء واضح لأهلها، التعويض عن فقرهم المادي بالتعويل على إفقار الريف واستتباعه للمركز مؤسسياً وإدارياً. لا غرو، أن موارد الريف الطبيعية ظلت تستفيد من عائدتها فئة طفيلية عكفت على كنز الأموال ولم تسع لتقديم رؤية تنموية ونهضوية تشمل كل البلاد، بل أمعنت في استغلال موارد الريف الغربي والشرقي خاصة تدعمها الآلية العسكرية التي تعاملت مع كل دعوة مطلبية على أنّها مؤامرة عسكرية وسياسية تستوجب الردع. عليه، فإن وصف الحروب في السودان بأنّها تمردات علي الدولة هو مجرد هراء ظل يبثه بعض الأدعياء وتردده الآلية الإعلامية المغرضة العمياء. هذه الحروب هي محاولات جسورة ظل يقوم بها أهل الهامش السوداني منذ “تمرد” توريت عام 1955 حتى دخول خليل إبراهيم الخرطوم وأم درمان عام 2008 للتخلص من حكم الأقلية العرقية والعصابة العقائدية تلكم التي استمرأت حكم البلاد لأكثر من قرنين (إعتباراً من تاريخ دخول الأتراك السودان في عام 1821) وأعتقدت بأنه حق إلاهي مقدس فيما يعلم الكل أنّه إرث استعماري مُدَنَس.
لم تنجح الإنتفاضات التي قامت في المركز جميعها في تقويم هذا الوضع المختل والذي تطاول أمده، والأدهى أنّ النخب المركزية استمرأت تلكم المعادلة المعطوبة التي جعلت السودان حكراً لأقلية إثنية وأيديولجية وعقائدية وسعت للترويج لها عبر بعض “الرموز الثورية” التي لم تخرج يوماً عن دائرة النخبة النيلية كما حدث في أكتوبر وأبريل وظل يحدث منذ ثورة ديسمبر. كلما دفع الثوار نحو شعارات الحرية والسلام والعدالة كلما تراجع “القادة” مؤثرين بعض الإصلاحات الشكلية ومحتفظين لأنفسهم بالأحقية في تحديد الوقت المناسب لتحقيق “التسوية الوطنية الشاملة”، وذلك بعد أن تبلغ الشعوب النضج فهي في نظرهم ما زالت في طور المراهقة الفكرية والأخلاقية. هذه هي بعض الإختلالات والتوهمات التي ظل يعاني منها العقل المركزي الذي لا يعمل بمعزل عن آليات سياسية واستخباراتية تصوّر له ضرورة اختيار أشخاصٍ من الهامش تتوافق رؤاهم مع رؤى سادتهم الذين طالما برعوا في استخدام سبل “الترميز التضليلي” للتحايل على مطالبات الأقاليم في تحقيق العدالة عبر إصلاحات مؤسسية ودستورية محددة.
يعاني بعض الغرّابة (من غرب السودان) الذين خرجتهم “حركات الكفاح المسلح” من عقدة دونية تجعلهم لا يستغنون عن إمرة واحدٍ من رموز “اللجنة الامنية”
(خاصة الجلابة الغلابة الذين ظلوا ينتقلون من هزيمة إلى أخرى) ليبرهنوا به عن غربتهم عن واقع الثورة السودانية التي رفضت الامتثال للعملاء من كافة الملل والنحل. ما تفعله هذه العصابات ليس دليلا ًعلى نضج سياسي إنّما هو فهلوة سيدفعون ثمنها في القريب العاجل، يوم أن ينفضهم الشعب من المسرح السياسي بعد ان لفظتهم الأجيال من وعيها الوطني. تكلم السيد/ جبريل إبراهيم عن الكساد الإقتصادي الذي أصاب البلاد من جراء الحرب وقد كان حريُّ به أن يتحدث عن الإنهيار الإقتصادي الوشيك وعن فشل إدارته في إيصال المعونات الإنسانية للمتضررين والمعوزين في كافة أنحاء البلاد وفي ولايته خاصة. كما يلزم أن يتعرض سيادته للكلفة البشرية والمادية للحرب التي طالت وستستمر دون أمل في تحقيق أحد الفريقين أي هدف استراتيجي أعلى، فقط التمادي في رفع وتيرة الدمار والهلاك الذي لن ينجو منه كل من تسبب في إيلام هذا الشعب المؤمن الصابر. وعندما اتكلم عن الشعب فانا أعني الشعوب السودانية جميعها ولا يقتصر فهمي على بقعة جغرافية معينة. لقد تعدّى مفهوم القومية نطاق الأحلاف للقبائل الشمالية، على الأقل في ذهنية النخب المتحررة من قبضة الشمولية.
إن جبريل ومناوي يقومان بدور البازنقر الذي استخدمه الزبير باشا لتطويع الشعوب السودانية والدارفورية خاصة (الذي كان نواة جينية لقوة دفاع السودان)، وهما إذ يؤديان هذا الدور يتغافلان عن حقيقة مفادها أن هذا الجيش الذي يؤيدانه يحمل في طياته الحامض النووي للإبادات الجماعية التي طالما كان ينظر مرتكبوها للشعوب السودانية غرب النيل على إنها مجرد ساحة ملئ بالعبيد والخدم (genealogy of thought). ليس أبلغ في التدليل على عنصرية النخب النيلية من رواية فشودة للروائي الدكتور أحمد حسب الله الحاج الذي يقول على لسان أحد العبيد: “رجال الحكومة هم الوحيدون القادرون على أن يمسكوا بك ويقطعوا أذنك، ويرموها في كيس للملح. ولماذا فعلوا ذلك؟ ليثبتوا أنهم يعملون. لقد فعلها أولاً الشايقية الذين حاربوا مع جيش إسماعيل باشا. كانوا يقطعون آذان القتلى ليحصلوا على مكافآتهم، وأخذها منهم الكثيرون من رجال الحكومة، كانوا يزيفون الأوراق ويقولون قبضنا على مائتي عبد وهم لم يمسكوا إلا مائة، ولهذا طالبهم من يتابع عملهم بالدليل، ولم يجدوا دليلاً أفضل من الأذنين، فالعبد لا يموت بعد أن تقطع أذنه، ثم أنه يستمر يسمع بعد ذلك. في الحقيقة يسمع بطريقة أفضل بعد ذلك، لأنه يعرف أن الذي قطع أذنه يستطيع أن يفعل به ما يشاء. إن أذني بمصر دليل على أنى موجود كعبد في السودان.”
ذكرتني الاعتقالات التي طاولت أبناء الشرق وبعض القيادات النقابيّة بالموانئ الأيام الماضية بحادثة طريفة حدثت لواحد من الهدندوة مع صاحب ساقية في كسلا، والمعروف أن معظم المزارع في تلك المنطقة يمتلكها أهلنا الشوايقة. الشايقي جاء لتفقد ساقيته بالنهار ووجد أدروب نائماً فعاتبه عتاباً غليظاً وقال له: انت بالليل ما مفروض تنوم (المقصد مفروض تعكف على حراسة المزرعة)، فكيف تنام بالنهار؟ أدروب بكل برود رد عليه قائلاً: أدروب لو نايم انت ما تصحي، ادروب لو صاحي انت ما كان بكون عندك مزرعة في كسلا!
الشاهد في الأمر أن هذه الحادثة على بساطتها وطرافتها تعكس الخلل في الاقتصاد السياسي السوداني، فمن يملك حق التوظيف في الخارجية والداخلية وبنك السودان والقوات النظامية والسكة حديد والأراضي يملك أن يفقر أهله أو يغنيهم. بهذه الطريقة ظل الشرق مملوكاً لفئات وافدة كما ظل الغرب أسيراً لسياسات ظالمة، وكل ما احتج اهل هذه البقاع أو تلك تمّ استرضاؤهم بتعيين أحد الأرزقية من أبنائهم في منصب لا يحل فيه ولا يربط واذا استفحل الأمر فتوجيه الآلية الحربية التي وظفت لقمع إرادة الشعوب ولم توظف يوماً لصيانة كرامتهم أو حفظ حقوقهم. إن المعركة معركة سياسية وفكرية وثقافية ولا يمكن أن تُحسم عسكرياً، بل يجب أن تُرَشَّد ويُحْكم زمامها حتى لا تضيع البلاد من بين أيدينا.
إن للجلابة (التعريف أعلى المقال) شعوراً بالاستحقاق وهذا الاحساس لا يفارقهم بل ظل يسبب لهم أزمةً نفسيةً إذ يطالبون بالديمقراطية والمدنية ويدعمونها فكرياً بيد أنهم يفارقونها وجدانياً لأنهم يعلمون أنهم باتوا أقلية ممقوتة ومكروهة بسبب ما ارتكبوه من مآسي في حق الشعوب السودانية. يقول عجوزٌ من مفكريهم، “فلكلوري” عتيد، أنهم يحافظون على الجيش لأنه السبيل الوحيد للحفاظ على الدولة. السؤال: أين هي الدولة ومن الذي تسبب في حدوث الاختلال الوظيفي الذي أبتليت به؟ أليس هم الجلابة بطمعهم وبلادتهم وحماقتهم. بل أين هو الجيش وقد استبيحت الخرطوم والجزيرة ومن قبلهما دار مساليت؟ هذه الفئة العنصرية لا تهمها أي بقعة في السودان حتى لو كانت توتي (ملتقى النيلين)، قدر ما يهمها تأمين الشمالية ونهر النيل.
ختاماً، لقد انهارت دولة الجلابة وذهبت غير مأسوفٍ عليها، فقد أورثتنا البغضاء وأججت نار العداوة فيما بيننا ومع كل جيراننا، ولم يعد لديها موقفاً أخلاقياً تبني عليه أطروحاتها الفكرية المهترئة فقد انتقلت بنا دون جدوى من أقصى اليسار إلى أقصى اليمين وحلقت بنا زمناً في سماوات الإفك وضلالات الكذب المبين. كل ذلك لتقنين وضع أقلية بائسة فقيرة لو تركت لنفسها لم تجد غير سم العقارب مادة للتصدير. الأدهى، أن هذه الفئة حصرتنا في الفضاء المشرقي وحرمتنا من التمدد الطبيعي في محيطنا الغربي بسبب ضعف البصيرة وبؤس المخيلة. لا يتسع المجال هنا للتعرض لمفكري المركز العنصريين وهم كثر، لكنني اكتفي بذكر “الكلب العقور” الذي وصفني في إحدى إخباريات يومه الكسول بقوله “الجنجويدي المتخفي”، فهل هناك إبانة عن موقفي اكثر من هذه المقالة؟ فعلام التخفي ولم الإزورار؟
[email protected]المصدر: صحيفة الراكوبة