إغلاق الوكالة الأميركية للتنمية… السودان مهدد بمزيد من الجوع والمرض والموت

بورتسودان: عبد الحميد عوض
يمكن لتداعيات إغلاق الوكالة الأميركية للتنمية الدولية أن تكون الأقسى على السودان الذي يشهد حرباً جوعت وقتلت وشردت الملايين، وخصوصاً أن مساهماتها في البلاد كبيرة
يُجمع الكثير من العاملين في المجال الإنساني في السودان، على أن بلادهم ستكون من الأكثر تأثراً بقرار الرئيس الأميركي دونالد ترامب تجميد عمل الوكالة الأميركية للتنمية الدولية. وتعد الوكالة من أكبر الداعمين للعمل الإنساني في السودان، وتقدر نسبة مساهمتها بنحو 50% من الدعم الإنساني الخارجي الكلي للبلاد التي تشهد حروباً ونزاعات منذ عقود طويلة، وكان آخرها الحرب بين الجيش وقوات الدعم السريع التي اندلعت في 15 إبريل/ نيسان 2023، وأودت بحياة أكثر من 20 ألفاً من المدنيين، ونزوح ولجوء ما يزيد عن 12 مليون شخص.
ويواجه أكثر من ثمانية ملايين شخص خطر المجاعة في السودان بحسب التصنيف المتكامل لمراحل الأمن الغذائي المدعوم من الأمم المتحدة، فيما يعاني نحو 25 مليون شخص من انعدام الأمن الغذائي الحاد في جميع أنحاء السودان، وفقاً للأمم المتحدة.
خلال فترة رئاسة جو بايدن ومع بداية الحرب، زادت الوكالة الأميركية للتنمية الدولية من مساعداتها للسودان. وفي أواخر العام الماضي، أضيف مبلغ 200 مليون دولار لدعم السودان، ما رفع إجمالي المساعدات الأميركية إلى 2.3 مليار دولار، بحسب ما أعلنه وزير الخارجية السابق أنتوني بلينكن، خلال اجتماع لمجلس الأمن ناقش خلاله الأزمة السودانية.
وشمل الدعم المالي المقدم من الوكالة دولاً مجاورة تأثرت بحرب السودان، مثل مصر، وتشاد، وجمهورية أفريقيا الوسطى، وجنوب السودان، إذ إن مئات آلاف السودانيين اختاروا اللجوء إليها. ومولت الوكالة عدداً كبيراً من المنظمات الدولية، وفي مقدمتها برنامج الأغذية العالمي التابع للأمم المتحدة، لمساعدته في توفير المعونات الغذائية والنقدية العينية لآلاف السودانيين. كما دعمت الخدمات الجوية الإنسانية للأمم المتحدة التي يديرها البرنامج لنقل العاملين في المجال الإنساني، عدا عن دعم إرسال المساعدات الطبية وتوفير الأدوية وتوفير وتطوير المستشفيات، بالإضافة إلى الخدمات التعليمية.
وجاء الإعلان الأميركي بزيادة المساعدات الإنسانية من إدارة بايدن استجابة لتحذيرات منظمات دولية من حدوث مجاعة كبرى في عدد من المناطق السودانية، ومطالبتها بتوفير 4.2 مليارات دولار لتلبية الاحتياجات الإنسانية في العام الحالي، إذ إن فقدانها سيزيد من تعقيد الأوضاع الإنسانية في البلاد. وأعلن برنامج الأغذية العالمي مراراً أن المساعدات الحالية تمثل جزءاً صغيراً فقط من المطلوب.
وشكل إعلان تجميد عمل الوكالة في السودان صدمة كبيرة للمنظمات الدولية والمحلية العاملة في مجال تقديم المساعدات للمتضررين من الحرب، ولمنظمات المجتمع المدني التي تعمل في مجال رصد انتهاكات حقوق الإنسان أثناء الحرب، ومنظمات بناء القدرات، ومئات الموظفين الذين فقدوا وظائفهم.
للمرة الأولى منذ بدء الحرب قبل عامين، تعجز مطابخ الغذاء في السودان عن تقديم الطعام لأشخاص يعانون الجوع.
تقول متطوعة في جمع التبرعات تحاول الاستحصال على المال لإطعام عشرات آلاف الأشخاص في الخرطوم لوكالة فرانس برس: “سيموت الكثير من الناس بسبب هذا القرار”، فيما تقول متطوعة أخرى: “لدينا 40 مطبخاً في كل أنحاء البلاد تطعم ما بين 30 و35 ألف شخص يومياً”، مشيرة إلى أن “كل هذه المطابخ أُغلقت بعد تجميد المساعدات الخارجية الأميركية. يتم رفض إطعام نساء وأطفال”.
ويقول رئيس الفريق الطبي لمنظمة “أطباء بلا حدود” في مدينة أم درمان، جاويد عبد المنعم، إن “تأثير قرار وقف التمويل بهذه الطريقة الفورية له عواقب مميتة”. يضيف: “هذه كارثة إضافية للسودانيين الذين يعانون أصلاً تداعيات العنف والجوع وانهيار النظام الصحي واستجابة إنسانية دولية مزرية”. وتفيد “أطباء بلا حدود” بأنها تلقت طلبات من الجهات المعنية المحلية للتدخل السريع، لكنها لا تستطيع ملء الفراغ الذي تركه سحب التمويل الأميركي، وفق عبد المنعم.
في العاصمة الخرطوم، تشكو غرف الطوارئ التي تقدم وجبات غذائية يومية لآلاف الأسر في المناطق الملتهبة من الواقع الجديد. كما تأسف غرفة طوارئ جنوب الحزام لما آلت إليه الأوضاع الإنسانية في المنطقة، بعد أمل عاشه الأهالي من جراء وصول أول قافلة مساعدات إنسانية بواسطة برنامج الأغذية العالمي في أواخر ديسمبر/ كانون الأول الماضي.
يوضح مصدر في غرف الطوارئ، لـ “العربي الجديد”، أنه لم تصل قوافل جديدة منذ ديسمبر، وسط مخاوف من تدهور الأوضاع الإنسانية، لا سيما بعد اشتداد المعارك في الخرطوم. ويبدي خشيته من أن يكون السبب وراء ذلك إيقاف الدعم الأميركي للمنظمات العاملة في المجال الإنساني. كما يخشى مراقبون توقف عمل منظمات كبيرة ومهمة ظلت عاملة في السودان لعقود طويلة، لا سيما تلك التي تقدم خدماتها للأم والطفل.
في إقليم دارفور غرب البلاد، تتضاعف الكوارث الإنسانية منذ عقود. يقول الناطق الرسمي باسم المنسقية العامة للنازحين واللاجئين، آدم رجال، لـ”العربي الجديد”، إن قرار ترامب بمثابة إعلان موت جماعي للنازحين في دارفور، وقد أعلنت المجاعة رسمياً قبل أسابيع من منظمات دولية في عدد من مخيمات اللجوء، وتحديداً تلك الموجودة في مدينة الفاشر التي ظلت تعاني لأكثر من تسعة أشهر من حصار ومعارك يومية بين الجيش وقوات الدعم السريع. ويشير إلى أن التأثيرات السلبية للقرار كبيرة؛ على سبيل المثال، ستتأثر اثنتان من أكبر المنظمات الأميركية التي تعمل في مخيم كلمة بولاية جنوب دارفور، ويعتمد عليهما كلياً أكثر من 500 ألف نازح في المخيم لتأمين الغذاء والدواء والإيواء، بدعم من الوكالة.
ويشير إلى أن المنظمتين مهددتان الآن بالتوقف أو تقليل العمل، لافتاً إلى أن “قرار ترامب هو تجرد من الإنسانية، وتخلٍّ عن قيم التضامن الإنساني الدولي. فالأخير لم يراع الظروف الاستثنائية التي يمر بها السودان منذ سنتين، ودارفور تحديداً منذ سنوات طويلة”. ويتوقع ارتفاع معدل الوفيات داخل مخيمات النزوح، وفي دارفور بشكل خاص، بسبب الجوع والمرض. ويأمل أن تتراجع الإدارة الأميركية عن القرار سريعاً، لضمان تأمين الغذاء للجوعى والحليب للأطفال والدواء للمرضى وكبار السن.
في مخيم “جوز الحاج” شمال مدينة شندي، 25 ديسمبر 2024 (عثمان باكير/الأناضول)
في مخيم “جوز الحاج” شمال مدينة شندي، 25 ديسمبر 2024 (عثمان باكير/الأناضول)
إلى ذلك، فقد عدد من الموظفين في منظمات وظائفهم، بعدما تسلموا خطابات مكتوبة بذلك، منهم سامي الذي سُرّح مع آخرين من منظمة مدعومة من الوكالة الأميركية للتنمية الدولية، وكان يتكفل بموجب ذلك بمصروف أسرته ويساعد أقاربه الذين تضرروا من الحرب.
يقول سامي لـ”العربي الجديد” إنّ قرار الرئيس الأميركي كان له تأثير قاسٍ عليه لأنه فقد مصدر دخله الوحيد، في وقت يصعب الحصول على وظيفة جديدة في هذه الأيام، لافتاً إلى أن ما حصل سيكون صعباً على أسرته التي تعتمد عليه كلياً بعد الحرب لتوفير احتياجاتها المالية، مع الإشارة إلى أنها تعيش في مدينة الفاشر الواقعة تحت الحصار لأكثر من عام نتيجة الحرب، وتزداد أوضاع الناس هناك صعوبة. يضيف سامي أن عشرات المنظمات تأثرت بقرار الإدارة الأميركية، ما سيؤثر بشكل بالغ على وصول المساعدات الإنسانية خصوصاً في ظل الحرب المستمرة.
ويشير إلى أن “غرف الطوارئ في الخرطوم، التي كانت تتكفل بالوجبات اليومية لآلاف السودانيين، تعاني نقصاً في الإمدادات. كما سيعاني النازحون في مخيمات الإيواء، واللاجئون خارج السودان، لأن معظمهم يعتمدون على تلك المساعدات في تأمين الحد الأدنى من احتياجاتهم الأساسية”.
حسن، من تأثير القرار الأميركي، معتبراً أن “معظم الأموال التي تدفعها الوكالة لم تؤسس لما هو جدير بالاعتبار، بل تصرف الأموال في ورش العمل، والمؤتمرات، والسفر، والتسيير الإداري، وصناعة وإنتاج نخب المجتمع المدني الجديد، وأصحاب الياقات البيضاء الذين اتخذوا من قضايا حقوق الإنسان والديمقراطية حرفة لهم، بينما يقل الصرف على الغذاء والمياه والخدمات الصحية والعلاجية”.
في السياق، يقول الأستاذ الجامعي عبد الله بلال، إن “هناك منظمات أخرى يمكن أن تسد الفراغ الذي ستتركه الوكالة الأميركية للتنمية الدولية”. ويشير في حديثه لـ “العربي الجديد” إلى أن “الولايات المتحدة ستفقد محوراً إنسانياً مهماً”. ويقترح على المنظمات المحلية العاملة في المجال الإنساني بناء شراكات جديدة مع المنظمات الإسلامية، وتلك القطرية والصينية واليابانية والتركية وغيرها من المنظمات الإنسانية البحتة، لسد الفجوة التي سيخلفها القرار الأميركي الأخير.
أما المحلل الاقتصادي عبد العزيز الباشا، فيدعو خلال حديثه لـ “العربي الجديد”، الحكومة السودانية إلى نسيان موضوع الدعم الإنساني الخارجي والتفكير في مشاريع إنتاجية للشباب لمحاربة الفقر، والعمل بجدية على مشاريع الأمن الغذائي، وإحياء فكرة الأسر المنتجة عبر دعم المصارف للمشاريع التجارية.
العربي الجديد
المصدر: صحيفة الراكوبة