إعلان أديس أبابا وخطاب القائد العام للقوات المسلحة «الفش غبينتو خرب مدينتو»
خالد عمر يوسف
عندما طرحت تنسيقية القوى الديمقراطية المدنية “تقدم” تصورها للوصول لوقف الحرب وبناء سلام مستدام، كانت تدرك بأن هذا الطريق لن يكون معبداً بالورود، فاختيار السلام وإعلاء صوت الحكمة والتعقل في وسط حالة الجنون التي تعصف ببلادنا أمر مضني وله تبعات قاسية يشق تحملها للكثيرين.
ما دفعنا لتحمل هذه المسؤولية هو ادراكنا بأنه لا حل خارجي للأزمة السودانية، فالسودان ليس أولوية قصوى في أجندة المجتمع الدولي المزدحمة بقضايا عديدة، ويقع السودان في مدار انقسام اقليمي عميق يصعب مهام المنظمات الاقليمية في التوافق حول مقاربة فاعلة لإحلال السلام في السودان. بلادنا تحترق وتتمزق ومسؤولية إطفاء هذا الحريق تقع على عاتق السودانيين/ات أولاً وأخيراً، لذا لا يمكن الانتظار لحل يهبط علينا من السماء.
ليس هذا فحسب، بل أن عامل الزمن لا يصب في مصلحة السودان، فبعد تسعة أشهر من الحرب المدمرة التي قتلت الناس وشردتهم في مدن النزوح واللجوء وأذلتهم وافقدتهم ممتلكاتهم بالسلب والنهب والقصف، صار حال كل سوداني/ة قصة مأساوية تغني عن السؤال وتدمي القلب بسبب انقطاع سبل الحياة وازدياد قساوتها يوماً بعد يوم. مع كل هذا فإن تطورات الحرب تنبىء بعدم امكانية الحسم العسكري الذي ظل قادتها يبشرون به منذ اندلاعها، بل على العكس تماماً فإن ديناميكيات الحرب تتطور نحو نقطة اللا عودة، فالحرب الآن اتخذت بعداً جهوياً لا تخطئه العين، وانخرطت أطرافها في تجنيد وتجييش واسع، فالدعم السريع ضم لصفوفه قطاعات من المقاتلين خارجين عن كل سيطرة فصاروا أمراء حرب مهنتهم السلب والنهب، والقوات المسلحة سارت في طريق مخطط عناصر النظام السابق الاجرامي بالتسليح الأهلي، وهو مخطط شرير مجرب من قبل في اقاليم عديدة في السودان وفي تجارب من حولنا في القارة لم تتعافى بعدها اطلاقاً، ولم تقم للدولة قائمة إثر ذلك.
إضافة لخطر الحرب الأهلية الشاملة، يتزايد خطر انزلاق السودان ليكون ساحة حرب إقليمية ودولية، فالطرفين المتقاتلين يحظيان بدعم وسند اقليمي ذو مصالح متضاربة، ومع ازدياد حالة الاستقطاب في القرن الافريقي والبحر الأحمر، صار أمر حدوث صدام مسلح إقليمي على أرض السودان مسألة وقت ليس إلا، حينها لن تكون كلمة السودانيين/ات هي الأعلى في تحديد مستقبل بلادهم.
وفقاً لما تقدم أعلاه ومع تسارع الخطى نحو انزلاق البلاد لحرب اهلية شاملة، ولتحولها لساحة صراع اقليمي ودولي مسلح، كان لزاماً علينا كقوى مدنية وطنية أن نتحرك إلى الأمام، لذا طرحت (تقدم) مشروع خارطة الطريق وإعلان المباديء، ومن ثم أتبعته بخطابات ارسلتها للطرفين المتقاتلين بتاريخ ٢٥ ديسمبر الماضي تطلب فيها لقاءات مباشرة لبحث قضايا وقف الحرب وحماية المدنيين وتوصيل المساعدات الانسانية.
التبس الأمر على البعض بتسمية جهد “تقدم” بالوساطة، وهو لبس واضح لا تخطئه العين، فالقوى المدنية الديمقراطية ليست وسيطاً في شأنها الوطني، بل هي فاعل رئيسي له رؤى وتصورات حول جذور الأزمة في البلاد وآفاق حلولها، لذا فإن تحرك (تقدم) جاء من موقع الفاعل لا موقع الوسيط، وطرحت افكاراً واضحة حول الخروج من المأزق الراهن، طرحنا هذه الأفكار لشعبنا أولاً عبر نشر مشاريع خارطة الطريق واعلان المباديء، وللفاعلين الإقليميين والدوليين، وللطرفين المتقاتلين، فأي حرب تلك التي يراد ايقافها سلماً دون التخاطب المباشر مع حملة السلاح وبحث بدائل معهم تجعل من اعتزال هذه الفتنة ممكناً، ومن التوجه للحلول السلمية التفاوضية خياراً مفضلاً.
استجاب الدعم السريع دون تردد للدعوة، وتلقينا اشارات ايجابية باديء الأمر من قبل الجيش، مما دفعنا للمضي قدماً لاغتنام هذه الفرصة، وبالفعل جاء إعلان أديس أبابا كاختراق سلام مهم في ساحة سيطرت عليها خطابات التحشيد الحربي.
نص إعلان أديس أبابا على استعداد الدعم السريع التام لوقف فوري غير مشروط للعدائيات عبر تفاوض مباشر مع القوات المسلحة يقود لانفاق ملزم برقابة فاعلة على الأرض. انتج اعلان أديس أبابا اطلاقاً فورياً لسراح ٤٥١ أسير، وتوصل لترتيبات عملية لحماية المدنيين وتوصيل المساعدات الانسانية، وعالج قضايا مهمة منها عودة المدنيين لمنازلهم وتشغيل الخدمات الرئيسية. ليس هذا فحسب بل قفز إعلان اديس أبابا من مجرد الوقوف عند محطة التعاطي مع اثار الحرب الراهنة لاستكشاف سبل الحل النهائي عبر نصه على مباديء رئيسية للحل النهائي واعتماده مشروع خارطة الطريق كأساس جيد لمناقشات إنهاء الحرب وإحلال السلام المستدام.
كل ما ورد اعلاه ليس اتفاقاً ثنائياً مغلقاً بين تقدم والدعم السريع، بل هو إعلان تكتمل جدواه بصورة كاملة بما ورد في الفقرة الأخيرة منه وهو السعي للقاء مع الجيش والوصول لتفاهمات تثمر التزامات مماثلة، فوقف الحرب يتطلب قبول جميع اطرافها ولا حرب تتوقف بالتزامات من طرف واحد، لذا فإن السانحة التي لاحت هي الالتزامات التي تعهد بها الدعم السريع بالتوجه نحو السلام وصارت الكرة في ملعب الطرف الآخر وهو القوات المسلحة التي ان كانت ردت التحية بمثلها لصار أمل السلام ممكناً وتجنب الحرب الاهلية والصراع الاقليمي متاحاً الآن دون تأخير.
جاء خطاب القائد العام للقوات المسلحة بالأمس في جبيت دون الطموح إذ أنه افتقد لاستشعار خطر اللحظة الحالية، وانقاد البرهان للثأر لشخصه من تعليقات حميدتي اللاذعة في تصريحاته الصحفية عوضاً عن النظر لحال البلاد وما آلت عليه، والصحيح في هذه اللحظة هو النأي عن التصعيد والتصعيد المضاد من جميع الأطراف ووضع مهمة رفع المعاناة عن الشعب السوداني أولاً وقبل كل شيء.
رغم هذا نقول بأنه لا زالت الفرصة مواتية للسلام، لقد تبين خطل خطابات التحشيد الحربي التي تستند على الأكاذيب لا على الحقائق، خطابات منت الناس بنصر سريع والنتيجة الآن هي العكس تماماً. خطابات رفعت راية الدولة ومؤسساتها باديء الأمر وها هي الآن تمضي نحو تحطيم الدولة ونقض غزل مؤسساتها دون أن يرمش لها جفن. خطابات تدثرت بإدعاء الدفاع عن السيادة الوطنية، وها هي الآن تغرق في مستنقع تمزيق السيادة وفقدانها للأبد عبر تحويل السودان لساحة معركة اقليمية لا ناقة لشعبنا فيها ولا جمل.
سنظل متمسكين بخيار البحث عن السلام واعتزال الفتنة كلياً، لن نصطف مع الأجندة الحربية اطلاقاً، وسننأى عن كل ما يزيد حدة الاستقطاب في بلادنا، فلا مخرج من هذه الكارثة سوى الحلول السلمية التفاوضية، هذا هو خيارنا قبل الحرب وحين اندلاعها والآن وغداً، وهو الخيار العقلاني الصحيح الذي لن نفرط فيه ولن نلتحق بحفلات الجنون الشامل التي تدق طبولها وتنعق بها غربان الشؤم التي تتعالى أصواتها غير ابهة بمعاناة ملايين من الأبرياء الذين يدفعون ثمن خيارات من أشعلوا هذه الحرب واستثمروا في استمرارها سعياً لمصالحهم الذاتية الضيقة.
المصدر: صحيفة التغيير