إعادة ترتيب القوي المدنيّة لمُقابلة التحديّات (٣/٣)

نضال عبدالوهاب
في الجزء السابق ذهبت لتوضيح الأخطاء التي مارستها ووقعت فيها القوي المدنيّة مابعد الثورة وحتي قيام الحرب وحتي اللحظة ومحاولات الحلول للواقع الحالي ، وكُل تلك الأخطاء غير أنها ساهمت في الأوضاع الحالية ، إلا أنها أيضاً عمّقت من التباعد البيّن بين جميّع القوي المدنيّة والسياسِية وإمكانية العمل المُشترك بينها ، وأوصلت في نهاية المقال السابق أننا أمام واقع للقوي المدنيّة يتطلب إعادة النظر والتصحيح لكل هذه الأخطاء التي مارستها ووقعت فيها ، سواء في طريقة التفكيّر والعقليّة والمنهجيّة والعمل القيادي أو من ينفذونه ، وأنه من الهام والضروري إبتداع طريق جديد يقود لإعادة ترتيب هذه القوي وأن أساسه هو القبول بالتغيير لصالح بلادنا وأوضحت أن التغيير والتصحيح هذا غير مُرتبط فقط بالأشخاص والقيادة ، وفي هذا المقال و الجزء الثالت والأخيّر ساحاول الوصول لرؤيتي حول أُسس هذا التغيير وعمليّة التصحيح التي يمكن أن تقودنا لإعادة ترتيب القوي المدنيّة والسياسِية و وحدتها وتماسكها في هذه المرحلة المصيّرية التي تواجه بلادنا والشعب السُوداني.
من الأشياء الرئيسية التي هي في التغيير المؤدي لتماسك وفاعلية القوي المدنيّة هو القبول التام بتقديّمنا لمصالح بلادنا والشعب السُوداني فوق كُل مصلحة دونها سواء كانت لأفراد أو تنظيمات وكيانات أو أجسام موجودة داخل القوي المدنيّة ، وهذا أمر لابديل عنه للوصول لطريق يصلُح للعمل الجمّاعي المؤثر والفاعِل لكافة القوي المدنيّة والسياسِية ، وهذا أمر ليس متروك للتقديرات الخاصة وإنما أساسه الإتفاق علي قضايا وأهداف تُمثل بالدرجة الأولي مصلحة السُودان وجميّع الشعب السُوداني وليس هنالك مصلحة حالياً أكبر من وحدة البلاد ووقف الحرب ثم الإنتقال لحوار وعملية سياسِية توافقية وتحول ديمُقراطي به مهام قضايا التأسيس والدستور والسلام الشامل وأهداف الثورة عبر مراحل يحددها السُودانيون وفقاً لمسار الحوار بينهم والإتفاق.
هذه القضايا والأهداف هي مايمكن أن تجمّع القوي المدنية وتجعلها تنظُر وتُركز علي مصالح بلادنا للوصول إليها الإصرّار لبعض القوي المدنيّة علي العمل المُستمر وفق منهجيّة تركز فقط علي القوي الدولية والخارجية لإيقاف الحرب و التحول الديمُقراطي ، فهذا أمر ومنهج من الضروري تغييره حقيقةً فمن الواضح تماماً أن مصالح هذا الخارج الدولي والإقليمي تذهب بإتجاهات إما لإستمرار الحرب أو فرض حلول تفرض طبيعة حُكم محدّدة وحكومات تابعة له ، وإما لتفتيت السُودان وتقسيّمه أو إعادة إحتلاله ، أو تركه في الفوضي والصرّاعات وإضعافه لتسهيّل السيطرة عليه والتحكم في موارده وسرقة ثرواته.
الحل الوطني السُوداني والداخلي هو المنهج الصحيح والسليّم في تقديري الذي يصلُح لنا للحفاظ علي بلادنا ووحدتها وإيقاف الحرب ومُعاناة السُودانيين ، فلن يهتم لأمرنا أحد أكثر منّا كسُودانيين سواء كان شعب خلافنا أو دولة أخري ، فالجميّع يعمل لمصالحه دول وشعوب ، إذاً تغيير منهجيّة العمل والتركيز علي الحلول الوطنيّة الداخليّة هو ما يلزمنا السيّر عليه كقوي مدنيّة وسياسِية في هذه المرحلة.
وتعامُلنا مع المجتمع الدولي والخارجي إقليمياً ودولياً تحدده فقط مصالِحنا كدولة وشعب ، وشروط التعاون التي تتماشي مع تلك المصالح ، وينحصِر في أشياء لاتمُس سيادة بلادنا أو تفرض حلول وواقع وتدخلات لاتخدم مصلحة السُودان والسُودانيين.
الأمر الثاني الهام في إعادة ترتيب القوي المدنيّة والسياسِية هو عدم إقصاء أي صوت مدّني وسياسِي يتفق علي القضايا والأهداف الرئيسية والمركزية وتمثل أولويات مصلحة بلادنا والشعب السُوداني وهي:
١/وحدة البلاد ٢/وقف الحرب٣/التحول الديمُقراطي
وقف الحرب يتطلب عدم دعمها أو دعم إستمرارها أو الإنحياز لطرفيها بأي صورة من الصور ، لذلك فكل المؤمنين بالأهداف الرئيسية والأولويات التي تجتمع عليها وتعمل لها القوي المدنية والسياسِية شرطها الأساسي هو عدم الإنحياز لطرفيها ومن يصرّون علي قتل شعبنا وإبادته وتهجيّره وتدميّر البلاد ، تقف الحرب بخفض أصوات من يريدون إستمرارها ويفرقون بيّن السُودانيين علي أساسها وأساس الصرّاع فيها ، مع إرتباط هذا للأسف بالتفريق بيّن السُودانيين ونشر الكراهيّة بينهم وتمزيق وحدتهم ومُجتمعاتهم.
كذلك عدم القبول بشرعيّة طرفيها أو إعادة إنتاجهم في السُلطة بأي مُسوق ، فصرّاع الطرفين علي السُلطة وإصرّارهم علي الحسم العسكري وتنفيذ أجندة خارجيّة هو ما أطال من أمّد الحرب وأنطلقت منه شرارتها الأولي وإشتعالها.
لإعادة ترتيب القوي المدنيّة وفق كُل ما ذكرنا من أهداف ومنهج للعمّل وطريق ومسار للعمل المُشترك فيما بينها أساسه القبول بمصالح البلاد والشعب العليا فوق أي مصالح أخري ، يجعلنا هذا نمضي لعملية تصحيح للسلوك القيّادي والذي مورست فيه الكثيّر من الصرّاعات ، ونتجت العديد من الخلافات ، نتيجة لأصرار البعض داخل القوي المدنيّة كما ذكرت في المقال السابق للهيّمنة والإحتكار والسيطرة علي القرارات ومنهج العمل وفق مايخدم فقط مصالح أفراد ومجموعات ظلت هي من تمسك بالقيّادة المُطلقة أو ترفض التنازلات أو تُمارس الإقصاء أو التشدّد في المواقف أو حتي رفض التعاون والعمل المشترك إلا وفقاً لها ولرأيها وإختياراتها ، وأسهم هذا في الخلل الكبير لدور القوي المدنيّة وأضعفها وساهم بدرجة كبيرة في إنقسامها الكبير وفشلها في الحلول وترك البلاد لحافة خطر التمزيّق والتقسيّم والإنهيار.
لن نستطيّع الوصول لوحدة بلادنا ووقف الحرب و المُعاناة للشعب إذا ماواصلنا بذات السلوك القيّادي السابق ، وحتي إذا وقفت الحرب مؤقتاً باي صفقة تخدم فقط أطراف الحرب ومصالح البعض ومصالح خارجية فمن المؤكد أنها لن تخدم مصلحة السُودان في الوحدة والتحول الديمُقراطي الحقيقي والسلام الشامل إذا ما لم يتم تعديّل وتغيير في السلوك القيّادي ومن يمارسونه خلال المرحلة القادمة وفي هذا التوقيّت العصيّب.
ظهور أصوات مدنيّة تقود في هذه المرحلة من بيّن الشباب والنساء وتمثل عقليّات جديدة وتدفع بإتجاه العمل الجماعِي المُخلص لصالح السُودان والشعب السُوداني وفق أولوياته ضروري جداً للوصول للأهداف وتحقيقها.
القبول بمن يتقدّم للقيّادة أمر هام ، والتخلص من أزمة التكرار وأمراض “الكنكشة” وسلوك الشُلليّات الذي ظلّ طابع مُعظم العمل مُنذ أيام الثورة وإلي اللحظة داخل القوي المدنيّة والسياسِية ، و هو الذي قلل كثيراً من فاعليتها ومن ثقة السُودانيين فيها ، لدرجة وصلت حد اليأس عند الكثيرين من أي أدوار إيجابية يمكن للقوي المدنية القيام بها ، خاصة في ظل وجود من يُريدون جر بلادنا إلي الماضي بإستمرار وعدم التحرك لمُستقبل أفضل في كُل شئ ، وكذلك في وجود من يُقدّمون مصالحهم الذاتية ومصالح تنظيماتهم فوق مصالح السُودان وظلّ هذا نهجهم ومايُحركهم.
أختم بالقول أن إعادة ترتيب القوي المّدنيّة لمواجهة التحديّات والخطر الماثل الذي يُحيط ببلادنا أمر حيّوي ومطلوب وهام جداً إذا ما أردنا الذهاب لمصلحة بلادنا في وحدتها ووقف الحرب ومُعاناة شعبنا والذهاب لواقع ومُستقبل أفضل في كُل شئ…
[email protected]
المصدر: صحيفة الراكوبة