إضاءة على الوجه الآخر للجيش السوداني بين (الضحية والجاني)

أجوك عوض
في ثياب الوعظين:
إنتهز الجيش السوداني الفرصة وأستثمر في الامتعاض والحنق الذي حمله الشعب السوداني علي قوات الدعم السريع جراء ما قامت به الأخيرة من انتهاكات لا سيما ما عرف بـ”الشفشفة”، وطرح نفسه الخيار الأمثل، لكونه من يؤتمن والأحرص علي أرواح وممتلكات الشعب السوداني بلا منازع. فاستقبلته النساء بالزغاريد والدموع وعمدته بهتاف “جيشا واحدا شعبا واحد” تأكيدًا للتعاضد.
دور الوفي الذي تغمسه الجيش خلال هذه الحرب نجح في جلب ما كان من خيانته العظيمة للمعتصمين في ساحة القيادة العامة للجيش عندما انتهك عرض أبناء الوطن على أعتاب عرينه.
حصان طروادة :
نظم مهوسو النقاء العرقي معلقات هجاء في رد أصل “الشفشفة “كسلوك طبيعي ومعتاد للمكون الاجتماعي لقوات الدعم السريع، إلا أن عمليات السرقة الواسعة التي مارستها كتائبهم وجيشهم في الخرطوم بحري وشرق النيل وقبلها امدرمان، نسفت كل تلك الادعاءات والحملات الممنهجة وإلا لما وجد الجيش ما يسرقه في تلك المناطق التي كانت تحت سيطرة قوات الدعم السريع.
الصور التي تناقلتها الوسائط وتُظهر أفرادا من الجيش السوداني في كامل بزتهم العسكرية وهم ينهبون ممتلكات المواطنين نسفت الصورة الزائفة التي رسمت له في هذه الحرب، وليس أسوأ ممن يسرق وينهب إلا من يأتي الفعل نفسه ثم يدعي الشرف. الجيش ينهي عن خلق ويأتي مثله ولا تحدثنا عن العار.
سقوط ورقة التوت عن الادعاء الكذوب
فما أن ارخي الليل سدوله حتى خرج الجيش من ثوب حامي الحمي وطفق يسرق وينهب بيوت المواطنين تحت مرآي ومسمع قياداته جهارا نهارا وتخرج المسروقات مرورا بإرتكازاته المنتشرة في الارجاء والتي بدورها تبتز المواطنين دون خجل، فالأمن مقابل السماح لهم بممارسة السلب والنهب والسرقة.
طفحت الميديا بالأصوات الساخطة التي تفاجأت بالوجه الجديد للجيش الذي سقط عنه ورق التوت وانكشف الغطاء عما كان مستترا بين طيات شرف الدولة، فأصبح الأمر محرجًا لأنصاره الذين كانوا قد أقاموا الدنيا بسرقة قوات الدعم السريع.
هكذا دأب الجيوش إذا دخلت قرية جعلوا أعزة أهلها ازله وليس في الأمر عجبا.ولكن العجيب اعتقاد البعض أن الجيش السوداني إستثناء، والمبالغة في النفي تأكيد.
بعد أخذها ما اخذت من الغنائم غادرت قوات الدعم السريع بعض مناطق العاصمة الخرطوم وما حولها تاركة الساحة للجيش الذي شرع في التقاط القفاز ومواصلة المشوار المشترك.
وقد اعتمد الجيش منهج “دق القراف خلي الجمل يخاف” حيث انتشرت عمليات القتل والاعدامات للمواطنين داخل منازلهم بذريعة التعاون مع قوات الدعم السريع. وبحت أصوات مواطنين منطقة “الردمية” بالحاج يوسف وغيرها من الاستنجاد بالجيش الذي قيل حينها أنه دخل “ام ضوا بأن” وعندما كثرت عمليات ذبح المواطنين داخل منازلهم وعدم استجابة الجيش لنجدتهم واغاثتهم اضطرت المنطقة للخروج عن بكرة أبيها والتوجه تلقاء عد بابكر راجلين فرارا بجلدهم من “بعبع” الليل فخلي الجو ووجد اللصوص ضالتهم في الاستفراد بالمنازل وكنسها من كل شئ.
هذه الصورة ليست حصرية على الحاج يوسف بل الكثير من أحياء بحري وامدرمان غرب الحارات ومدني وعلي ذلك قس، وليس أدل على ذلك من مقاطع الصوت وشكاوى الضحايا المنتشرة، لاسيما حديث سيدة من مواطني السامراب وهي تروي بأسف ووجع بلهجة سودانية فصيحة مرارة وحسرة تفاصيل سرقة الجيش وشفشفة منزلها جازمة بأن الدعم السريع لم تسرق منازلهم طوال الفترة الحرب لأنهم كانوا موجودين وما فعله الجيش بهم لم يفعله الدعم السريع.
وفي عمليات استهبال كبير لصرف الأنظار عن خزيه وعاره عمد الجيش لتنفيذ حملات اعتقالات واسعة وسط الشباب وتم تصفية الكثيرين بتهمة التخابر مع الدعم السريع وسرقة ونهب المنازل، وفي حقيقة الأمر أن منسوبيه حسبما وثق هم اللصوص الفعلين “لشفشفة”بيوت المواطنين وشحن اثاثاتهم في العربات والركشات.
الجيش الذي ادعي تفوقه على قوات الدعم السريع بإتمانه على أرواح وممتلكات المواطنين والوطن كانت سقطته داويه في امتحان الأخلاق والأمانة. فبعد اعتماد قانون الوجوه الغريبة غدا الجيش غير مؤتمن على أرواح الشعب السوداني، وبعد عمليات سرقة ونهب منازل المواطنين الواسعة صار الجيش حاميها حراميها بدون مواربه. فاذا كان الجيش يذبح، يسرق، ينهب ويقتل دون محاكمات فما هو الفرق، وما هي مظاهر تفوقه على الدعم السريع؟!.
“قوات عقار والمشتركة”.. الحيطة القصيرة
بعد خروج الدعم السريع واحتفال الجيش بإعلانه بسط سيطرته على العاصمة وما حولها استمرت عمليات السلب والنهب وسرقة منازل المواطنين وكان التبرير أن قوات مالك عقار هي من تأتي ذلك الفعل المعيب حسب القالب التنميطي ووفقا لمسوغات عنصرية بحتة. وبعد اختفاء قوات عقار ذهبت التهمة إلى المشتركة التي يبدو أنها استنفدت كروت المصلحة والتحالف المرحلي، وبإيعاز من الجيش صدح شيبة ضرار نهارا بطرد القوات المشتركة من الشرق.
منطق المواطنة في السودان أصبح غريباً ويدعو للدهشة فالموارد ملك لكل الشعب دون أن تكون للمنطقة المنتجة اي ميزة من عائد الإنتاج. ولكن حدود المواطنة والحركة محصورة في دائرة الانتماء العرقي ومسقط الرأس حسب دستور حكومة بورتسودان غير المعلن فهل لا زالت الألسن تلهج مرددة بـ”كل اجزاءه لنا وطن”؟!.
الآن أصبح اللعب على المكشوف، كانت قوات الدعم السريع تبرر سرقة بيوت المواطنين بأنها تسترد أموال الشعب الذي سرقه الكيزان لثلاثين عاما والآن الجيش يبرر سرقته لمنازل المواطنين بأنها ما غنائم، فاي غنائم هذه،؟! ربما كان نوعا من الإقتصاص من الشعب الذي نادي بالمدينة وصاح هاتفا “معليش معليش ما عندنا جيش”. كم مسكين هو الشعب السوداني إذ يرزح بين مطرقة قوات الدعم السريع وسندان الجيش السوداني.
هل من جريرة إرتكبها الشعب السوداني ليدفع هذا الثمن؟!
حينما نوضح الحقائق هنا نربأ بأنفسنا عن الشماتة لأن غايتنا أكبر من ذلك لجهة أننا شاهد عيان علي عدم مؤسسية ووطنية ومهنية الجيش لكون شعب جنوب السودان أول ضحاياه ونال نصيب الأسد من انتهاكات وجرائم ذلك الجيش بحق مواطنيه، منذ تكوين انانيا1 في الفترة ما بين (19551972) مرورا بأيام الهوس الأكبر ولكن لم تكن هناك هواتف ذكية توثق للقتل والسحل على أساس الهوية والاغتصابات الجماعية وقتل الاطفال والسرقات، كان الجنوبيين أقل الضحايا حظا في توثيق جرائم الجيش السوداني بحقهم ولكن الله يمهل ولا يهمل، ولأنه حرم الظلم علي نفسه وجعله محرما بين عباده فهاهو وعده يتحقق بالنصرة قوله تعالي: (ولينصرنك الله ولو بعد حين) وبعد حين قد يكون شهر، سنة أو نصف قرن، وقد كان ولله الحمد وهو يفضح هذا الجيش غير المؤتمن في عقر داره.
عندما كان الجنوب يجأر بالشكوى من جرائم وفظائع الجيش السوداني، كانت الأناشيد الجهادية تطرب الأسماع وتعبق ليالي الإفطارات واللقاءات التي تطفح موائدها بكل ما لذّ وطاب احتفاءًا بالمجازر ضد المواطنين العزل في مدن جنوب السودان. والآن فالمحارق التي يحدثها طيران الجيش في هذه الحرب ضد المواطن يؤكد بأن الجيش يترك العدو المفترض ويستهدف المواطنين وهذا ما كان يحدث هناك بالضبط.
وشهد شاهد.
تاريخ الجيش السوداني في عمليات سرقة ونهب بيوت وممتلكات المواطنين يعود إلى أيام “الانيانيا 1” حتى عهد أكذوبة الجهاد في جنوب السودان ولا نعني هنا جنود الصف بل كبار اللواءات والضباط وانتهاء بالجنود الذين هم بالضرورة علي دين ملوكهم. فلا تكاد الذاكرة الجمعية للجنوبيين تغفل أو تنسي منظر (الماجروس) كما حفظنا عن ظهر قلب نحن جيل الثمانينيات، والماجروس شاحنة عسكرية ضخمة ذات صوت عالي شديد السرعة؛ ونحن أطفال فور سماعنا صوتها ورؤية عجاج إطاراتها الكبيرة من على البعد نهرع الى قعر بيوتنا او نلوذ بجدر المنازل خوفا من أن تهرسنا. كانت “الماجروس” ناقلة جند ومعنية بجلب تعينات قوات الجيش من الشمال وفي رحلة العودة العكسية تعود مثقلة باثاثات وممتلكات المواطنين من بحر الغزال لاسيما المصنعة من خشب التيك المعتق جميل المنظر غالي الثمن بجانب الاناتيك والمنحوتات الفخمة التي تفردت وبرعت في نحتها انامل أبناء جنوب السودان لتزدان بها بيوت كبار ضباط الجيش. بالإضافة لأطقم الجلوس والأسرة، كانوا يشحنون الواح التيك غير المصنع، الأمر الذي أدى للقضاء على غابات التيك بالقطع الجائر لشحنها شمالا، وتضرم النار في الجذوع العارية لإخفاء اثار الجريمة.
لك أن تتخيل حجم هذا الدمار المركب! بل ازدهر الأمر إلى أن غدا بعض كبار الضباط تجارا لخشب التيك استيرادا وتصديرا.
عندما يعاود ضباط الجيش السوداني ادراجهم من غزوات الغنائم يقول قائلهم هذا أهدي اليّ؟! وذاك من حُر مالي، مع العلم أنهم لم يذهبوا مغتربين بل مقاتلين، كما تفضل الأستاذ عز الدين دهب، في كلمة نعتبرها شهادة عضدت ما ذهبنا إليه. بقوله: “طبعا السودانيين معظمهم كان بفتكروا القبة تحتها فكي وبهتفوا بكل براءة وسذاجة جيش واحد شعب واحد.. الحاجة دي ما جديدة الجديد فيها فقط ميدان المعركة، دا سلوك قديم متوارث، نحن أبناء مناطق تسمى مناطق عبور من الشمال الى الجنوب، زمان لمن يجي غيار كتائب الجيش من الجنوب تأتي الماجروسات محملة بكل شيء اي حاجة تخطر على بالك يجوا شايلنها من الجنوب مع العلم أنهم مشوا جنود وليس مغتربين.. دحين الشعب السوداني يرخي جسموا ويتحمل إلى أن يقتنع انو القصة دي ما بنفع معاها الترميم، فقط بناء جيش جديد بعقيدة وفهم جديد يتجاوز تركة وعقلية جيش البازنقر”.
لم تكن هناك ثمة حكومة أو قيادات تستنكر، تحاسب وتحاكم، لأن ما أخُذ كان في حكم غنائم أهلها كفار دمهم وأموالهم حلال؟!.
لا نتحامل على الشعب السوداني لأنه صمت وهو الذي لم يكن في موقف يسمح له بغير ذلك، لكن قديما قيل إذا لم تستطع قول الحق فلا تصفق للباطل، الكثيرين لم يستطيع قول الحق حينها ولكنه عوضا عن ذلك صفق للباطل بشدة وهو يبرئ أثنيات معينة من السرقة بقولهم الحُر لا يسرق، “الشينة منكورة” بينما يلصقون التهم بأبناء الهامش لكونهم (عبيدا وحرامية) وفق قولهم.
والشهادة بأن سرقة الجيش السوداني ليست إدانة مقصود بها إثنية معينة بل نتحدث عن جريمة ارتكبها الجيش وهم بشر والبشر بطبيعة الحال متوقع منه أي سلوك تحت الضغوطات والاغراءات؛ ولكن عبدة وثن النقاء العرقي يستنكرون علينا ذلك. فأثرنا الصمت ونحن موقنين بأن الروائح النتنة تفضح كل ما هو فاسد آجلا والزيف لا قاعدة تحميه وها هي ذا تفوح وتفضح قانون النقاء المطلق والشرف المزعوم. مع العلم أن هناك قبائل من عمق ذلك النقاء القح ومع ذلك معروف عنها ممارسة السرقة كنوع من الفراسة أيضا وهي موجودة وتمارس ما اعتادت عليه ولكنهم يتقاضون الطرف عن القذئ في أعينهم ويحاولون اخراج ما بعيون غيرهم.
الحقيقة التي لا مناص من مواجهتها : الجيش السوداني يعد اسوأ منظومة عسكرية على وجه الأرض قاطبة لاحتوائه علي جم العلل التي مزقت البلاد اقعدت بالشعب السوداني، على رأسها الخيانة. فهو يؤدي القسم على حماية الشعب وممتلكاته باليمين ثم يجهز بالغدر والخيانة تقتيلا وتصفية لأبناء الشعب الذي أقسم على حمايته. يتلف منشآت الشعب الذي شيده من حر ماله وينجب المليشيات من نكاح المصلحة بينه وبين الحركات والكيانات والدروع القبلية لسفك دماء الأبرياء في الناحية الأخرى ومن ثم يعود فيمارس هوايته في الغدر والتنكر. ولا غرابة فهذا الجيش الذي نبت لحمه من سحت ليس بدعة فهناك القوات النظامية الأخرى لاسيما قوات النظام العام سيئ الذكر هو الآخر لحم اكتافه من أموال “الفداديات” المنهوبة خلال حملات التفتيش ومداهمات بيوت صانعات الخمور البلدية. فمن جرت العادة على تسميتهن بـ”الفداديات” لهن أفضال عظيمة على رجال كثر مثلن له مصدر دخل ثابت من خلال نهب أموالهن ومقتنياتهن أثناء عمليات “الكشة” بوضع أيديهم على كل ما يعثرون عليه داخل الرواكيب أو الخيم من جهة فقه (الممطورة ما بتبالي من الرش) ومن خلال الرشاوى الثمينة التي يأخذونها من ابتزاز تلك النسوة اللائي ما حملنهن على صنع وبيع الخمور سوى نشدان سبل معيشة لسد رمق ابنائهن بعد أن نقلت الدولة الريف للمدينة وفشلت في توفير سبل بديلة لكسب العيش الكريم وتفننت في افقار الشعب. ثم لا يقف الأمر عند هذا الحد واستكمالا لمشاهد مسرح اللا معقول تساهم الغرامات الباهظة التي تفرض على صانعات الخمور البلدية في تسيير دولاب الدولة في بعض أوجهها. في ظل دولة تدعي بأنها اسلامية؟!
فكون الجيش السوداني سارق او يسرق ليس في الأمر ثمة جديد فمعروف عنه السرقة قديما؛ الجديد هو الجرأة غير المعهودة في الجهر بتورط أفرادا من الجيش في سرقة ونهب منازل المواطنين وسكوت قياداته عن الإدانة أو ايقاف المهزلة والفضيحة.
ومع الأدلة الدامغة التي أثبتت تورط الجيش في عمليات نهب وسرقة بيوت المواطنين نجد قوم غزية يردد تعليقا ينم عن الرضى عما يقوم به أفراد الجيش من عمليات السرقة والنهب “خليهو يشفشفنا عافين ليهو” إذ تستنكر الشفشفة على قوات الدعم السريع وغيرها بينما تبارك للجيش حين يمارس أفراده ذات الفعل وتلك الازدواجية تعكس خلل مجتمعي مريع فضلا عن أنه يحوي رسالة ذات أبعاد فحواها أن الجيش قد يسرق ولكنه لا يسحب بساط الإمتيازات التأريخية المحتكره. هنا تكمن الرسالة.
عين الرضي عن كل عيب كليلة
وعين السخط لا تبدئ الا المساوئ
آن الاوان لمواجهة الحقائق مجردة كما هي وان كانت قاسية وقبيحة. هذا الجيش مغتصب حرائر، سارق الاثاثات، ناهب المقتنيات، فماذا يتوقع من منظومة استشرى فيها الفساد واتسع البون شاسعا بين القيادة المنتقاة وبين القاعدة العريضة المهمشة التي لا تكاد تجد ما يسد به الرمق في ظل التجويع والفقر المدقع.
قال علي ابن ابي طالب كرم الله وجهه: (عجبت لمن لا يجد قوت يومه، أفلا يخرج في الناس شاهرا سيفه؟).ويكفي هذا الجيش عارا أن سلاحه لما يزيد عن الخمسين عاما مصوب على صدور ابنائه ولم يسترد شبرا انتزع من البلد.
[email protected]
المصدر: صحيفة الراكوبة