من الخوف إلى الثقة: إصلاح التعليم يبدأ من كسر القيود

حسن عبد الرضي الشيخ

في لحظةٍ فارقة من تاريخنا الوطني، وفي ظلّ التراجع المريع في العملية التعليمية في السودان، لا بدّ أن نمتلك الجرأة لنقترح ما قد يبدو للوهلة الأولى ضربًا من الخيال أو ضربًا من الحماقة: امتحانات بلا مراقبة! نعم، هذا هو العنوان العريض الذي أطرحه اليوم، لا من باب الترف الفكري، بل من منطلق إيمان راسخ بأن الإصلاح الحقيقي يبدأ من الثقة في الإنسان، لا من الشك فيه.

لماذا هذا الاقتراح الآن؟

لأننا بلغنا من انحطاط البيئة التربوية والتعليمية ما جعل الامتحانات تحوّلت إلى كابوس سنوي، يتبارى فيه الطلاب في الغش كما يتبارى المراقبون في القسوة، وتتفنّن الدولة في تحويل المدارس إلى ثكنات، وكأننا نحارب لا نُعلِّم!
كل هذا يحدث، بينما في دولٍ متقدمة، يُجري التلاميذ امتحاناتهم من غير مراقبة ولا توتر، اعتمادًا على قيم داخلية، لا على عيون خارجية.

الامتحان ليس اختبارًا للذاكرة

في النظام التعليمي الحديث، لم تعد الامتحانات مجرد وسيلة لحفظ المعلومات وتفريغها، بل أصبحت وسيلة لقياس الفهم، والمهارات، والقدرة على التفكير النقدي.
فحين تتحول أسئلة الامتحان إلى مواقف حياتية، وتمارين تحليل، ومهام واقعية، لن يكون للغش مكان، ولن تكون هناك حاجة لمراقب، لأن الطالب سيكون وحده في مواجهة ضميره، وفهمه، وقدرته على الإنجاز.

الشروط الضرورية لنجاح التجربة

لكن دعونا نكون واقعيين: الامتحانات بلا مراقبة لا يمكن أن تنجح في بيئة تعليمية منهارة، ولا وسط مناهج متهالكة. لهذا، فإن هذا المقترح مشروط بتحقيق ثلاثة عناصر أساسية:

١. إصلاح جذري للمناهج

إن تُراجع مناهجنا وفق معايير الجودة العالمية، وأن تخرج من عباءة التلقين إلى آفاق الإبداع، والتفكير، والعمل الجماعي، وربط المعرفة بالحياة.

٢. تهيئة بيئة مدرسية محفزة ومحترمة

لا يمكن بناء الثقة في طلابنا، ولا في معلمينا، ما لم تُعاد هيكلة المدارس لتصبح مؤسسات جاذبة، آمنة، وذات رسالة إنسانية، لا أماكن بائسة تفتقد الماء والكهرباء.

٣. تأسيس ثقافة الثقة والمسؤولية

الامتحانات بلا مراقبة هي في جوهرها امتحان للمجتمع، لا للطالب فقط. يجب أن نعيد غرس قيم الأمانة، والإخلاص، وحب المعرفة، منذ الروضة وحتى الجامعة.

ليست سذاجة بل شجاعة

سيقول البعض إن السودانيين لا يصلحون لهذا النوع من الامتحانات، لأنهم اعتادوا الغش والالتفاف على القوانين. لكني أقول: هذا ظلم للشعب.

فقد ثبت في تجارب كثيرة أن الإنسان إذا أُكرم احترم نفسه، وإذا أُحسن الظن به، ارتقى إلى مستوى الثقة.

ولنا في تجارب بعض الجامعات العالمية، بل حتى بعض المدارس في بلداننا، نماذج مشرّفة لامتحانات تُجرى بلا مراقبة، ويؤدّيها الطلاب في بيوتهم أو في قاعات مفتوحة، ويكتبون في ورقة الإجابة: “أقرّ أنني لم أغش، وأن ما كتبته يعكس جهدي وحدي.”

خاتمة: نحو عهد جديد من الثقة

ربما لا تكون بلادنا مهيّأة اليوم لتطبيق هذا النموذج على نطاق واسع، لكننا نستطيع أن نبدأ بتجارب صغيرة، في مدارس نموذجية، ومع طلاب متفوّقين، ومعلمين مؤهلين، ونسجّل النتائج بكل صدق.

إنها بداية ثورة أخلاقية وتعليمية في آنٍ واحد، قوامها أن نؤمن بالإنسان السوداني، ونعيد إليه كرامته التي أهدرتها سياسات الفشل والقمع والتشكيك.

فهل نحن على استعداد لأن نجرب الثقة بدل القيد؟
هل نمتلك شجاعة أن نربّي جيلاً يرى الأمانة شرفًا لا خوفًا من العقاب؟

ذلك هو التحدي الحقيقي.

المصدر: صحيفة التغيير

شاركها.