إسرائيل بين العزلة والتراجع الدولي (الجزء الأول الضغط من الداخل والخارج)

✍️ محمد هاشم محمد الحسن.
يشهد المشهد الجيوسياسي المتعلق بإسرائيل تحولًا جذريًا، فالتصعيد العسكري في غزة والانتهاكات المتزايدة لحقوق الإنسان لم تؤدِ فقط إلى أزمة إنسانية كارثية، بل دفعت أيضًا شركاء تقليديين مثل بريطانيا والاتحاد الأوروبي لاتخاذ إجراءات عقابية غير مسبوقة. هذه الخطوات، التي تتجاوز رد الفعل المباشر على الأزمة، تحمل في طياتها دلالات عميقة حول تحول محتمل في مكانة إسرائيل على الساحة الدولية. ولفهم هذه التحولات، يجب استكشاف الأبعاد المتعددة للأزمة، بدءًا من تآكل الشرعية الداخلية وصولاً إلى الضغوط الخارجية المتصاعدة.
لم تعد الأزمة الراهنة حكرًا على الساحة الدولية، فداخل إسرائيل، يواجه رئيس الوزراء بنيامين نتنياهو أزمة شرعية متزايدة تفاقمت مع استمرار الحرب في غزة.
استطلاعات الرأي التي تشير إلى أن 70% من الإسرائيليين باتوا يؤيدون وقف الحرب تعكس تحولًا ملحوظًا في المزاج العام الداخلي. هذا التغير، إلى جانب الاحتجاجات المستمرة التي تتصاعد في الشدة والعدد، والانقسامات المتزايدة داخل حكومته الائتلافية، يضعف من قبضته السياسية ويزيد من الضغط عليه لاتخاذ قرارات قد تتعارض مع أجندته المعلنة. هذا التآكل في الدعم الداخلي يشكل تحديًا وجوديًا لسلطة نتنياهو ويؤثر بشكل مباشر على قدرة إسرائيل على الحفاظ على جبهة داخلية موحدة في مواجهة الضغوط الخارجية.
يتجاوز تآكل الشرعية الداخلية مجرد الأرقام في استطلاعات الرأي ليشمل تطرف الخطاب السياسي الصادر عن مسؤولين إسرائيليين بارزين، خاصة من أعضاء الحكومة اليمينية المتشددة. هذه التصريحات، التي غالبًا ما تُفسر على أنها تبرير لانتهاكات حقوق الإنسان أو دعوات لتصعيد النزاع، تُعرض على الملأ العالمي وتُستقبل بانتقادات لاذعة، مما يساهم بشكل مباشر في تشويه الصورة الدولية لإسرائيل.
على الصعيد الخارجي، بدأت ملامح التراجع الدولي لإسرائيل تتضح بشكل متزايد عبر إجراءات عقابية غير مسبوقة من شركاء غربيين تقليديين. العقوبات الأوروبية والبريطانية الأخيرة، التي استهدفت شخصيات ومنظمات استيطانية متطرفة مثل بن صهيون غوبشتاين، زعيم منظمة (لهافا)، وإيساشار مان، مؤسس موقع استيطاني غير مرخص، ومجموعة تساف 9 المتهمة بمنع دخول المساعدات الإنسانية إلى غزة، ليست مجرد إجراءات رمزية. بل هي إشارات قوية تعكس عدم ثقة متزايدة في كيفية إدارة إسرائيل للأزمة، وتؤكد تراجع الدعم التقليدي الذي كانت إسرائيل تتمتع به من حلفائها الغربيين. هذه الإجراءات، وإن كانت محددة الأهداف في الوقت الحالي، تشكل سابقة مهمة تشير إلى أن السلوك الذي كان يتم التغاضي عنه في الماضي لم يعد مقبولًا، وقد يمهد الطريق لمزيد من الضغوط. ومع ذلك، فإن رد الفعل الإسرائيلي، ممثلاً بتصريحات رئيس الوزراء بنيامين نتنياهو الذي قلل من شأن هذه العقوبات وأكد أنها لن تثني إسرائيل عن مسارها، يعكس إصرارًا على التمسك بالسياسات الحالية ويؤكد الفجوة المتزايدة بين تل أبيب والمجتمع الدولي بشأن مقاربة الصراع.
لم يأتِ هذا التحول في المواقف الغربية من فراغ، بل هو نتاج ضغط شعبي متزايد في تلك الدول. ففي عواصم مثل لندن وباريس، شهدت الأشهر الأخيرة تظاهرات حاشدة طالبت بمحاسبة إسرائيل على تصرفاتها في غزة. هذا الزخم الشعبي، المدفوع بالصور المروعة القادمة من القطاع والإدانات الواسعة للانتهاكات الإنسانية، وضع الحكومات الغربية في موقف حرج، حيث باتت مضطرة للاستجابة لمطالب مواطنيها.
هذا التغير في الضغط الشعبي يمثل قوة دافعة لا يمكن تجاهلها في رسم ملامح السياسة الخارجية لتلك الدول تجاه إسرائيل في المستقبل. وإلى جانب التظاهرات الجماهيرية، برزت الاحتجاجات الطلابية والجامعية الواسعة في الغرب، لا سيما في الولايات المتحدة وأوروبا، كظاهرة بارزة.
هذه الحركات الاحتجاجية، التي تعكس تحولًا في الرأي العام بين الأجيال الشابة والبيئات الأكاديمية، تزيد من الضغط على الحكومات الغربية لإعادة النظر في دعمها لإسرائيل، وتؤثر على الصورة الذهنية لإسرائيل بين النخب المستقبلية التي ستتولى المناصب القيادية.
المصدر: صحيفة الراكوبة