إرادة التحرر بين سمو الكرامة وقيود الواقع
د. الهادي عبدالله أبوضفائر
في ساعة النداء وساحة الفداء من أجل وطن حدادي مدادي وطن خير ديمقراطى ، تتلألأ أرواح شباب سمر نذروا انفسهم للوطن سنداً للقوات المسلحة والمستنفرين والدفاع الشعبي ، رسموا بدمائهم الطاهرة خريطة الكرامة والعزة. واجهوا زحف الظلم وجحافل المليشيات ، قتالهم لم يكن مجرد واجب ، بل رسالة تنبض بالمعاني العميقة ، الكرامة عندهم أثمن من الحياة ، شعارهم الوطن يستحق التضحية بكل غال ونفيس. لم تكن معاركهم عسكرية فقط ، بل كانت سيمفونية شجاعة ، سطّروها في ساحات القتال حيث تُختبر معادن الرجال. بدمائهم الزكية كتبوا تاريخاً جديداً يتحدث عن الاستبسال والإيثار ، عن حلم شعب أراد أن يتطهّر من أدران الطغيان ، وعن قلوب أحبت الوطن أكثر من ذاتها.
وها هو الشعب ، يقف اليوم شامخ مرفوع الرأس، شاهداً على بطولاتهم ، متسائلاً في دهشة: هل تلك الكلمات الخالدة التي كتبتها إبن فاشر السلطان الشاعر حافظ عباس وصدح بها الفنان القدير مصطفى سيد أحمد مستلهمة من رؤيا لما سيكون؟ .
(إلا باكر يا حليوة لما أولادنا السمر يبقوا أفراحنا ألبنمسح بيها أحزان الزمن نمشي في كل الدروب الواسعه ديك والرواكيب الصغيره تبقي أكبر من مدن إيدي في إيدك نغني والله نحن مع الطيور الما بتعرف ليها خرطه ولا بإيدها جواز سفر).
دوماً في زمن الحرب ، تغيب الكثير من القيم وتصبح الغايات ذريعة لدهس المبادئ ، ظهر أولئك الشباب كأيقونة نادرة ، يسطّرون بدمائهم وأفعالهم درساً في السمو الأخلاقي والإنسانية الخالصة (وليد جنى) نموذجاً. لم تكن الحرب بالنسبة لهم مجرد معركة أسلحة ودماء ، بل امتحاناً للنفس وقيمتها ، ومعياراً لمدى قدرتها على الحفاظ على إنسانيتها وسط أهوال الصراع. تعاملهم مع النساء والأطفال والشيوخ، بل وحتى مع أعدائهم ، كان مثالاً يحتذى. لم يسلبوا الضعفاء حقاً ، بل منحوا مما يملكون رغم شحّه ، وبدلاً من أن يدفنوا آبار الماء لحرمان الآخرين منها ، قدموا الماء للظمآن ، مؤكدين أن الكرامة لا تعني الإنتصار على الآخر ، بل تعني الحفاظ على إنسانية الإنسان. وفي زمن الفوضى ، حين يختلط الحق بالباطل ، لم يسلكوا دروب النهب والاعتداء و”الشفشفة” . بل كانوا على العكس تماماً : أعادوا المسلوب ، وأعلنوا عن الممتلكات المنهوبة في منطقة (زرق) ، ونشروا أرقام العربات المسروقة في كل القروبات ، حتى لا ينتهك معنى التضحية التي قدموها بأرواحهم. هنا يتجلّى الفرق العميق بين من يجعل من الحرب وسيلة للتدمير والفساد والسرقة ، وبين من يراها أداة لاستعادة الحق والكرامة والحرية.
ارتكاب الغير للموبقات ، لم يستفز فيهم مشاعر الانتقام ، بل كان دفع السيئة بالحسنة التزاماً أخلاقياً. كانوا يدركون أن كرامة الوطن لا تُبنى على حساب كرامة الآخرين ، وأن النصر الحقيقي لا يكمن فقط في كسب المعارك ، بل في الحفاظ على القيم والمبادئ التي تجعل الإنسان إنساناً. إنهم شباب رأوا في الحرب أكثر من مجرد صراع ؛ بل فرصة لإعادة صياغة مفهوم الوطن ، وإعلاء قيمة العدل والإنصاف. لم يكونوا أبطالاً بالسلاح فقط بل كانوا أبطالاً بالموقف وبالعطاء ، وبإصرارهم على أن يبقى الوطن مكاناً يعيش فيه الجميع بكرامة وعزة. إن ما قدموه ليس مجرد أفعال في زمن حرب بل دروسا خالدة في كيفية تحويل أصعب اللحظات إلى فرص لبناء معانٍ أعمق للإنسانية. هؤلاء الشباب لم يقاتلوا فقط من أجل الأرض ، بل من أجل أن يبقى الوطن رمزاً للشرف والقيم ، ليعيش فيه الجميع مرفوعي الرأس ، محفوظي الكرامة.
اولادنا السمر ، ليسوا مجرد جنودٍ في ساحة الوغى ، بل هم رموزٌ لروحٍ جماعيةٍ تؤمن بأن العدالة لا تتحقق إلا بالتضحية ، وأن الكرامة لا تُسترد إلا بالدم. أفعالهم لم تكن مجرد واجب مهني، بل تجلٍّ للفكر العميق القائل بأن وجود الإنسان مرتبط بقيمته ، وأن قيمته تُقاس بما يقدمه لوطنه وأبناء شعبه. لقد أعادوا رسم ملامح الفخر في وجوه السودانيين ، وبعثوا الأمل في النفوس التي كاد يخنقها اليأس. إنهم أولئك الذين ببطولاتهم وتضحياتهم كتبوا نثراً وشعراً خالداً على جبين الوطن ، يقول إن الحرية تُولد من رحم الألم ، وإن عزّة الشعوب لا تُباع ولا تُشترى ، بل تُنتزع بدماء أبنائها. في أعماق القلوب التي تنبض بالوفاء ، سيبقى اسمهم محفوراً ، وسيرتهم مشعلاً يضيء دروب الأجيال القادمة ، لتتعلم أن الشجاعة لا تموت ، وأن الوطن الذي يُبنى بدماء أبنائه لا ينحني بل يرتفع شامخاً كالنجم في سماء لا تُطفأ أنوارها. كيف لشعبٍ كان بالأمس مفعماً بالحياة ، أن يجد نفسه اليوم بلا وطنٍ يحميه ، ولا جواز سفرٍ يمنحه هوية؟ إن الوطن ليس مجرد حدود على خارطةٍ جامدة ، بل هو انتماء يحيا في القلوب ، وملاذٌ يلملم شتات الروح. لكن حينما تنقلب المعادلات ، ويُنتزع الأمن من تحت أقدام أبنائه ، يصبح السؤال فاجعاً : أيعقل أن تذوي الكرامة ، فلا يجد الإنسان سوى الغربة حتى في وطنه؟ .
[email protected]
المصدر: صحيفة الراكوبة