عمر سيد أحمد
خلفية تاريخية
منذ اندلاع النزاع المسلح في إقليم دارفور عام 2003، عاش السودان واحدة من أبشع المآسي الإنسانية في مطلع القرن الحادي والعشرين. فقد قُتل مئات الآلاف، وشُرّد الملايين من ديارهم نتيجة حملة منظمة من القتل والتطهير العرقي ارتكبها نظام الرئيس المخلوع عمر البشير ضد المجموعات الأفريقية في دارفور وجبال النوبة والنيل الأزرق.
رغم العقوبات الدولية المفروضة على الخرطوم منذ عام 1997، إلا أن النظام استطاع عبر شبكة مالية معقدة الوصول إلى النظام المصرفي العالمي لتمويل آلته العسكرية. وهنا تحديدًا بدأ الدور الخفي للبنوك الأجنبية، وعلى رأسها بنك BNP Paribas الفرنسي، الذي مكّن النظام من الوصول إلى مليارات الدولارات عبر مكاتبه في جنيف وباريس، في خرق صريح للعقوبات الأمريكية والأوروبية.
القرار التاريخي
بعد أكثر من عقدين من تلك الجرائم، أصدرت هيئة محلفين فيدرالية في مانهاتن نيويورك في أكتوبر 2025 حكمًا تاريخيًا أدان بنك BNP Paribas لمسؤوليته عن تمويل النظام السوداني ودعمه خلال فترة الإبادة الجماعية، ومنحت ثلاثة من اللاجئين السودانيين تعويضات مالية تجاوزت 20 مليون دولار، ويُعد هذا الحكم أول سابقة قضائية تُحمّل بنكًا عالميًا مسؤولية مدنية مباشرة عن تمويل جرائم ضد الإنسانية، فاتحًا الباب أمام أكثر من 20 ألف لاجئ سوداني مقيمين في الولايات المتحدة للمطالبة بمليارات الدولارات كتعويضات إضافية.
محاكمة دامت خمسة أسابيع
استمرت المحاكمة خمسة أسابيع أمام القاضي ألفين هيلرستاين في المحكمة الفيدرالية للمنطقة الجنوبية من نيويورك. وتركّزت القضية حول اعتراف البنك بانتهاكه للعقوبات الأمريكية، بعد أن سمح لحكومة السودان بالوصول إلى مليارات الدولارات الأمريكية عبر مكتبه في جنيف خلال ذروة الصراع.
أكد المدّعون أن هذه الأموال كانت “الوقود المالي” الذي موّل عمليات القصف والتهجير والقتل، وهو ما أقرّت به هيئة المحلفين معتبرة أن البنك كان “سببًا مباشرًا وكافيًا” للأضرار التي لحقت بالضحايا تفاصيل التعويضات
قضت المحكمة بتعويضات بلغت:
6.4 ملايين دولار للمدعي عبدالقاسم عبدالله
7.3 ملايين دولار للمدعية انتصار عثمان كاشف
6.75 ملايين دولار للمدعي ترجمان آدم
ورغم محدودية المبالغ مقارنة بحجم الكارثة، إلا أنها تمثل انتصارًا رمزيًا للعدالة واعترافًا رسميًا بمسؤولية جهة مالية دولية عن المأساة السودانية.
تصريحات فريق الادعاء: قال المحامي بوبي دي تشيللو، الشريك في مكتب DiCello Levitt: “هذا الحكم انتصار للعدالة والمساءلة. المؤسسات المالية لا يمكنها أن تغض الطرف عن عواقب أفعالها. موكلونا فقدوا كل شيء في حرب غذّاها الدولار الأمريكي، والبنك كان أحد ركائزها المالية.”
أما مايكل هاوسفيلد، مؤسس مكتب Hausfeld، فقال:”تُعيد هذه القضية إحياء مبادئ محاكمات نورمبرغ التي أرست مسؤولية كل من ساهم في الجرائم ضد الإنسانية، مهما كان موقعه. لقد صمد الضحايا السودانيون لعقود، واليوم يجنون أولى ثمار العدالة.”
رسالة قانونية إلى النظام المالي العالمي
أكدت المحامية كاثرين لي بويد من مكتب Hecht Partners أن الحكم يمثل “رسالة قوية” للبنوك والمؤسسات المالية عبر العالم:
“لقد بات واضحًا أن المصارف ليست فوق القانون. من يمكّن الأنظمة القمعية من التمويل، عليه أن يتحمل تبعات ما ترتكبه تلك الأنظمة من فظائع.”
سابقة قانونية ومغزى سياسي
القضية التي تحمل اسم Kashef وآخرين ضد BNP Paribas وآخرين، رُفعت باسم مجموعة من اللاجئين السودانيين الذين نجوا من الحرب وفروا إلى الولايات المتحدة. ويُتوقع أن تفتح هذه القضية الباب أمام موجة من الدعاوى المشابهة ضد مؤسسات مالية يُشتبه في دعمها لأنظمة قمعية أخرى في إفريقيا والشرق الأوسط.
ويرى خبراء القانون الدولي أن الحكم يُكرّس مبدأ المساءلة العابرة للحدود، مؤكدين أن “المال يمكن أن يكون سلاحًا قاتلًا مثل الرصاص”.
خلفية عن البنك والعقوبات السابقة:
يُذكر أن بنك BNP Paribas كان قد اعترف عام 2014 بانتهاكه للعقوبات الأمريكية المفروضة على السودان وإيران وكوبا، ووافق حينها على دفع غرامة قياسية بلغت 8.9 مليارات دولار لتسوية الدعوى الجنائية. إلا أن الحكم الجديد يُعد أول إدانة مدنية تربط البنك مباشرة بتمويل جرائم إبادة جماعية.
خاتمة
يمثل هذا القرار علامة فارقة في مسار العدالة الدولية وحقوق الإنسان. فبعد عقدين من الألم والنزوح، بدأ ضحايا الإبادة في السودان يسمعون كلمة طال انتظارها: الاعتراف.
ولعل هذا الحكم يفتح الطريق أمام مرحلة جديدة من محاسبة من موّلوا آلة الحرب، حتى وإن كانوا يختبئون خلف مؤسسات مصرفية ضخمة وشعارات مالية براقة.
[email protected]
المصدر: صحيفة التغيير