إجهاض النازحات… صدمات الحرب تقتل الأجنة في السودان
تقتل الحرب بين “الدعم السريع” والجيش السوداني الأجنة في بطون أمهاتهم، اللائي لا يجدن غذاءً أو دواءً أو مستشفيات في بيئة مليئة بالخوف والمرض المنتشر بين النازحات ممن يفقدن أطفالهن في الطرق أو المخيمات البائسة.
خسرت النازحة السودانية أسماء عبد الرحمن (20 عاماً) جنينها بعد ستة أيام من وصولها إلى مدينة الفاشر حاضرة ولاية شمال دارفور غرب البلاد، والتي انتقلت إليها من مدينة نيالا عاصمة ولاية جنوب دارفور غرباً بعد سيطرة قوات الدعم السريع عليها في أكتوبر/تشرين الأول الماضي، ورغم أن المسافة بين الفاشر ونيالا 205 كيلومترات، وتستغرق أقل من ساعتين بالسيارة في الأوقات العادية، لكنها احتاجت إلى ثلاثة أيام حتى تصل إليها، لعدم توفر المركبات العامة والسيارات الخاصة، بعد ما نهبها مقاتلو الدعم السريع، وتلك التي نجت من السطو، نقلها أصحابها خارج المدينة قبل سقوطها.
خلال رحلة نزوحها الشاقة، لم تتناول عبد الرحمن الحامل في شهرين، الطعام سوى ثلاث مرات فقط، وبكميات صغيرة غير مُشبعة، وبصعوبة حصلت على الماء أثناء طريقها إلى الفاشر، فكان الجوع والعطش، إلى جانب المشقة الناتجة عن السير لمسافات طويلة، والخوف الشديد أسباب حدوث الإجهاض وفق ما أبلغها الطبيب.
وفي يونيو/ حزيران الماضي تعرضت عبد الرحمن للإجهاض مرة ثانية، بسبب ما تبذله من مجهود لتأمين المياه عبر نقل إناء سعة 60 لتراً من نقطة التوزيع العامة للمياه، ومن ثم تحمله مسافة 950 متراً إلى أن تصل إلى المنزل الذي تقيم به.
قفزة غير مسبوقة في أعداد الحالات
تكشف سجلات مستشفيين حكوميين اطلع عليهما معد التحقيق عن قفزة غير مسبوقة في عدد حالات إجهاض النازحات، إذ أجرى مستشفى الولادة بمدينة الأبيض بولاية شمال كردفان وسط البلاد، 453 عملية تنظيف للرحم لنسوة حدث لهن إجهاض خلال النصف الأول من عام 2024.
ويبين الدكتور حسن أبكر مدير قسم الولادة في المستشفى لـ”العربي الجديد” أن عمليات التنظيف لا تحصي العدد الحقيقي لحالات الإجهاض، إذ تجري هذه العمليات للنساء اللائي تعرضن لمضاعفات ولم يخرج الجنين كاملاً، لكن توجد عشرات الحالات يسقط فيها الجنين كاملاً من دون الحاجة إلى عملية.
واستقبل مستشفى النو التعليمي بمدينة أم درمان في ولاية الخرطوم، 954 حالة إجهاض في الفترة الممتدة بين نوفمبر/تشرين الثاني 2023 ويوليو/تموز 2024، كما تبين سجلات قسم الإحصاء التي اطلع عليها “العربي الجديد”.
وأسهم سوء التغذية المنتشر بين النازحات في مخيم كلمة على أطراف مدينة نيالا في حدوث قفزة غير مسبوقة بعدد حالات الإجهاض وفق ما رصدته منسقية النازحين واللاجئين في دارفور، إذ سجلت 430 حالة بين مارس/آذار وأغسطس/آب 2024، بينما كان عدد حالات الإجهاض داخل المخيم قبل الحرب لا يتعدى 20 حالة إجهاض شهرياً.
كما سجل مركز الصحة الإنجابية المتكامل في معسكر أبو شوك للنازحين في الفاشر، تزايداً في الأعداد منذ اندلاع الحرب منتصف إبريل/نيسان من العام الماضي، لكن ذروة الحالات كانت في الفترة الممتدة بين إبريل وأغسطس 2024، إذ بات المركز يستقبل ما بين 2 و4 حالات يومياً، وهو ضعف ما كان يستقبله مقارنة بالفترة الزمنية نفسها في عام 2023، كما يقول مديره، الطبيب أحمد محمد أحمد، والذي يؤكد أن عدد حالات الإجهاض التي تصلهم لا تعكس العدد الحقيقي، لأن النساء في المعسكر لا يفضلن الحضور إلى مقابلة الطبيب وتلقي المساعدة الطبية بسبب الوضعين الأمني والاقتصادي المتدهورين، نتيجة قصف الدعم السريع للمخيم على مدار اليوم، ما أدى إلى نزوح 60% من سكانه خلال مايو/أيار الماضي.
أما منسقية النازحين في المعسكر (يديرها متطوعون) فوثقت، 150 حالة إجهاض في الفترة الممتدة بين مايو ويوليو الماضيين، وفقاً لبيانات حصل عليها “العربي الجديد” من إسماعيل خريف عضو المنسقية.
إجهاض في الطريق
بعد سيطرة الدعم السريع على مدينة سنجة بولاية سنار جنوب شرق البلاد في يوليو الماضي، اضطرت سلوى آدم والتي كان حملها في شهره الرابع إلى النزوح بعيداً عن المدينة التي تحولت إلى جبهة قتال، وبعد سيرها على الأقدام لمسافة تزيد على 40 كيلو متراً شعرت بتعب شديد وأعراض إجهاض.
وبسبب توقف المرافق الصحية عن الخدمة في المناطق الخاضعة لسيطرة الدعم السريع، سعت آدم إلى الوصول إلى أم درمان، واستغرقها الأمر 12 يوماً لقطع المسافة لعدم توفر وسائل نقل بينما تستغرق الطريق في الظروف العادية خمس ساعات فقط، إلى أن وصلت إلى مستشفى النو وهي تعاني نزيفاً حادّاً بعد إجهاض الجنين.
ويُجمع ثلاثة أطباء تحدثوا لـ”العربي الجديد” بينهم نقيبة أطباء السودان اختصاصية الجراحة هبة عمر أن أسباب زيادة حالات الإجهاض بين النازحات واللاجئات في فترة الحرب كان مردّها السير لمسافات طويلة هروباً من مناطق الاقتتال الشديد، وحمل أمتعتهن على رؤوسهنّ في ظل تقطع السبل بالنازحات والنازحين.
وأجهضت 24 امرأة من اللاجئات السودانيات أثناء مغادرتهن سيراً على الأقدام مع عشرات اللاجئين في أغسطس الماضي مخيماً في غابة أُولالا بإقليم أمهرة بأثيوبيا نحو مدينة المتمة التي تبعد مسافة 90 كيلو متراً داخل البلاد، بعد تدهور الوضع الأمني في المخيم الذي تعرض لعدد من الهجمات من قبل العصابات المسلحة أدت إلى مقتل عدد من اللاجئين، بحسب إفادات 5 لاجئين سودانيين كانوا شهوداً على حالات الإجهاض، ومن بينهم عبد العزيز آدم الذي قال لـ”العربي الجديد” إن ما يزيد على 15 امرأة أجهضن في الطريق قبل الوصول إلى مدينة المتمة، بينما أجهضت البقية فور وصولهن إلى المدينة، بسبب ما عانينه من السير لمسافات طويلة بالجوع والعطش.
الملاريا تقتل الأجنة
فرضت ظروف الحرب على النازحات السودانيات ممارسة أعمال شاقة من أجل توفير النقود لشراء الطعام لهن ولأطفالهن، لذلك أصبن بإجهاد شديد كونهن لم يجدن باباً سوى الشغل في مهن قاسية منها قطع الأشجار وصناعة الفحم وبعضهن يعملن “عاملات طُلبة” في ورش البناء حيث يقمن برفع المعدات والطوب أثناء عمليات التشييد، كما تعمل كثيرات منهن في نقل البضائع والسلع المختلفة في الأسواق، والمحظوظات يعملن عاملات نظافة أو في غسل الملابس في البيوت بحسب الطبيبة عمر.
60% من المستشفيات السودانية خرجت عن الخدمة بسبب الحرب
وهذه الحالة الاقتصادية المتدهورة تعيق الحوامل وتمنعهن من الحصول على الراحة اللازمة، وشراء الأدوية الضرورية في حال توفرت في الصيدليات، إذ يباع شريط Folic Acid (حمض الفوليك وهو مكمل غذائي) الواحد بما يعادل دولاراً، وتحتاج الحامل شهرياً إلى ثلاثة أشرطة بقيمة 3 دولارات لأول 3 أشهر من الحمل، وهو مبلغ يصعب عليهن توفيره، بينما يصعب إيجاد الأدوية المثبتة للحمل والمكملات التي تحتاج إليها النساء بعد الشهر الرابع، في البلاد نهائياً، فضلاً عن قلة احتمال حصولهن على الرعاية الصحية اللازمة في ظل خروج 60% من المستشفيات عن الخدمة بسبب ظروف الحرب، بحسب الطبيب أحمد. كما أن الأمراض تفتك بهن وبأجنتهنّ وفق ما رصده، إذ أجهضت حوامل جراء الإصابة بالملاريا المنتشرة بصورة كبيرة في المخيم ولا يجدن علاجاً ما يزيد من مخاطر انفصال المشيمة وخسارة الجنين، ورصدت منسقية النازحين داخل مخيم أبو شوك وفاة 50 امرأة حامل في النصف الأول من العام الجاري بحسب إسماعيل خريف، نتيجة إصابتهن بأمراض أو سوء تغذية حاد ما أدى إلى تدهور وضعهن الصحي.
وفي كثير من الحالات لا تتمكن النسوة من الوصول إلى المستشفى القريب منهن لتلقي الرعاية اللازمة عند حدوث الإجهاض، كما هو الحال في مستشفى النو لوقوعه قرب خط النار بين الطرفين المتقاتلين، وبعدها خرج عن الخدمة لثمانية أشهر في الفترة الممتدة بين إبريل ونوفمبر الماضي، بحسب مصادر طبية في المستشفى (فضلت عدم كشف هويتها لدواع أمنية).
ضحايا الكلور والفسفور
أجهضت الثلاثينية طيبة سر الله مرتين خلال فترة الحرب، كانت الأولى في نوفمبر عام 2023، وخسرت جنينها للمرة الثانية في مايو 2024، وفي المرتين كانت في الشهر الثالث من حملها.
كانت طيبة تقيم في حي جبرة الواقع جنوب الخرطوم بالقرب من سلاح المدرعات والذي تدور حوله معارك عسكرية بين الطرفين، ومع بداية الحرب نزحت مع زوجها إلى الجزء الشمالي من مدينة أم درمان واستقرت بالقرب من قاعدة وادي سيدنا الجوية العسكرية التي تعرضت لقصف مستمر من قبل الدعم السريع عبر دانات المدافع والطائرات المسيرة، ما جعلهم يعيشون في رعب مستمر، تسبب في إجهاضها في المرة الأولى بسبب الخوف الشديد عقب القصف، بينما وقعت حالة الإجهاض الثانية بسبب زيادة تركيز مادة الكلور في مياه الشرب، وهو إجراء لجأت إليه السلطات السودانية لمجابهة وباء الكوليرا الذي انتشر حتى الآن في 12 ولاية من أصل 18، منها الخرطوم.
954 حالة إجهاض استقبلها مستشفى النو التعليمي في ثمانية أشهر
وتؤكد الطبيبة عمر على دور العامل النفسي في التأثير على النساء الحوامل في المخيمات ومناطق النزوح الجديدة التي تفتقر إلى الأمن إلى جانب انتشار الأسلحة، ما يفاقم خوف النساء ويضاعف قلقهن من التعرض للعنف أو الاغتصاب وغيرها من الانتهاكات على يد أطراف الحرب.
إضافة إلى ما سبق، يقول الطبيب أحمد، إن المواد الكيميائية الناتجة عن الأسلحة المستخدمة في مناطق الاقتتال تؤدي إلى الإجهاض أو الولادة المبكرة، مثل مادتي الفسفور والرصاص المنتشرة وسط المناطق السكنية، والتي تنتقل إلى الدورة الدموية عبر الاستنشاق المباشر وتحدث خللاً فيها مسببة انفصال المشيمة ما يؤدي إلى موت الجنين أو إجهاضه وربما تسبّب موت الأم إذا استنشقت كميات كبيرة بشكل متكرر.
العربي الجديد
المصدر: صحيفة الراكوبة