فجّر قرار “مجلس الأمن والدفاع السوداني” قطع العلاقات مع الإمارات واعتبارها دولة عدوان، جدلاً سياسياً واقتصادياً في الأوساط السودانية حول مصير صادرات الذهب الذي سكت عنه القرار، بخاصة أن أكثر من 80 في المئة من صادرات هذا المعدن النفيس يجري نقلها إلى دبي، مما طرح استفهامات عدة حول اعتماد السودان على سوق واحدة فقط لصادرات الذهب، وامتد الجدل ليشمل الارتباك والغموض الذي يسود كل ملف ذهب السودان والمهدر معظمه بمعدلات التهريب الهائلة وعدم الاستفادة منه كأهم مورد للعملات الحرة في تحريك عجلة الاقتصاد القومي المتيبسة، والهدر الذي يتعرض له.
ودفع الجدل الحكومة إلى الكشف عن تفاصيل استدراكية لاحقة لقرار قطع العلاقات مع الإمارات، حملت في طياتها نيات لحظر تصدير الذهب مستقبلاً إليها تماشياً مع قطع العلاقات، وذلك من خلال مراجعة وإجراءات شاملة لإعادة تنظيم صادرات الذهب وحماية الاقتصاد الوطني.
وحول استمرار تصدير الذهب إلى الإمارات قال وزير الثقافة والإعلام والمتحدث باسم الحكومة، خالد الأعيسر، إن عمليات التصدير كانت تجري سابقاً بواسطة شركات خاصة وأفراد بمعزل عن القنوات الرسمية للدولة، مشيراً إلى أن القرار مدعوم بتقارير رسمية كشفت عن خلل هيكلي في عائدات الذهب، مما استوجب التدخل العاجل لإعادة هيكلة العملية وضمان استفادة الخزينة العامة من هذه الثروات، مبيناً أن لجاناً فنية واقتصادية شرعت بالفعل في ترتيبات تضمن تنفيذ القرار بكفاءة وشفافية.
سوق رئيسة
وفي المقابل كشفت “شعبة الصاغة وتجار ومصدري الذهب” في السودان عن عدم وجود قرار رسمي بوقف تصدير المعدن النفيس إلى أبوظبي، باستثناء قرار قطع العلاقات الحكومية بين البلدين، بسبب اتهام لها بتمويل ميليشيات “الدعم السريع” في الحرب ضد الجيش السوداني.
وأوضح رئيس الشعبة، عاطف أحمد، أن دبي كانت السوق الرئيسة لتصدير ذهب السودان خلال الحرب، بفضل إجراءاتها المبسطة وتحويل الأموال المباشر عبر “مجلس الذهب العالمي”، مشيراً إلى أن بعض المصدرين يواجهون صعوبات في تسلّم مستحقاتهم من دول أخرى، بخاصة أن السودان في أمس الحاجة إلى العملة الصعبة وسط الأزمة الحالية.
وأشار أحمد إلى أن دولة الإمارات لا تشتري الذهب وحسب بل تستفيد من الخدمات اللوجستية وعوائد الاستثمار، داعياً الحكومة إلى تبسيط الإجراءات وإيجاد الأسواق البديلة قبل قطع التصدير، ومحذراً في الوقت نفسه من تداعيات القرارات المتسرعة مثل ارتفاع أسعار النفط والدرهم الإماراتي.
ملف شائك
وفي السياق رأى الأكاديمي والمحلل الاقتصادي محمد الناير أن إنتاج وتصدير الذهب في السودان من الملفات الشائكة، فمنذ بدء إنتاج هذا المعدن النفيس بين عامي 2009 و2010، أي قبل انفصال جنوب السودان بعامين، وعلى رغم مرور 15 عاماً على بدء إنتاجه، لكن هذا المورد الحيوي ظل مستنزفاً بواسطة التعدين التقليدي الذي يشكل أكثر من 80 في المئة من الإنتاج في مقابل 20 في المئة فقط للتعدين المنظم.
وطالب الناير الدولة باتخاذ قرار شجاع وجريء لمعالجة الخلل في الوضع الداخلي أولاً قبل التفكير في قضايا ومشكلات التصدير إلى الخارج، وذلك باتخاذ قرار شجاع بإيقاف نشاط التعدين الأهلي، وعلى رغم ما قد يترتب من ردود الأفعال غاضبة ولكن ذلك يبقى ضرورياً للحفاظ على ثروات البلاد التي ظلت تهدر بمعدلات عالية جداً بسبب التهريب الواسع عبر هذا القطاع، إذ إن الذهب المهرب خلال الفترات الماضية كان سيمثل احتياطاً لو جرى الاحتفاظ به لدى البنك المركزي، ولكانت العملة المحلية في أفضل حالاتها.
وتابع الناير أن “ثمة مؤشرات مشجعة على أن المعدّنين التقليديين بعد العمل لأعوام طويلة في هذا المجال باتت لديهم القدرة على التحول نحو القطاع المنظم من خلال امتلاك مربعات صغيرة أو متوسطة في التعدين المنظم، وهو تحول سيؤدي إلى تعظيم فائدة الاقتصاد ودعم الموازنة وتقوية العملة المحلية بصورة كبير جداً تمكن الدولة من الحصول على نصيبها من عائدات الذهب المنتج بدلاً من ذهابه إلى أشخاص كما الوضع الآن”.
وذكر الأكاديمي أن تحول التعدين التقليدي إلى القطاع المنظم سيعيد عائدات الذهب للدولة ويوقف معدلات التهريب الهائلة التي كانت تجري عبر التعدين التقليدي، ليس فقط على الحدود الشاسعة ولكن أيضاً عبر المنافذ الضيقة في المطارات والموانئ، في ظل فشل كل محاولات الحكومة للسيطرة عليه.
المراقبة والبيئة
وقال الناير أيضاً إن “تحول التعدين التقليدي إلى القطاع المنظم في شأنه أن يسهل عمليات المراقبة والمتابعة بما يعيد للدولة مواردها، كما يشجع على استخدام الأدوات الحديثة ويخفف الأضرار البيئية، فضلاً عن تفادي تدمير التعدين السطحي لمعالم مواقع الذهب الموجود في الأعماق بصورة تصعب استكشافه عبر الأقمار الاصطناعية والأدوات الحديثة”، لافتاً إلى أن السودان كان من المفترض أن يبحث عن فتح أسواق أخرى لصادرات الذهب قبل وقت طويل بدلاً من الاعتماد على سوق واحدة فقط، ومبيناً أنه على رغم امتلاك السودان مصفاة للذهب لكنها للأسف ليست لديها الاعتمادية المطلوبة، مما يستدعى إعادة تصفيته في مصاف معتمدة تملكها الإمارات، ولكن ذلك لا يمنع فتح أسواق جديدة في دول تتوافر فيها الإمكانات ذاتها.
وفي شأن تحويلات العائدات قال الناير إنه “من الممكن الاتفاق على أمر تسهيل التحويلات المصرفية مع تلك الدول لتعود الفائدة على الاقتصاد السوداني بدلاً من الاعتماد على سوق واحدة”، مشيراً إلى أن “كلاً من مصر وتركيا والصين وروسيا بدأت خلال الآونة الأخيرة في استقبال كميات من صادرات الذهب”.
السوق الواحدة
وعلى نحو متصل أوضح الناشط الاقتصادي مدثر محيي الدين أن كل التقارير الرسمية وغير الرسمية تشير إلى أن السودان يصدر معظم إنتاجه من الذهب إلى الإمارات بنسبة تفوق 90 في المئة من إجمال المنتج، غير أن التقارير ذاتها تشير إلى خطورة منحى الاعتماد على دولة واحدة وعدم التنوع في أسواق الذهب عالمياً، مخافة جعل صادرات الذهب عرضة لتقلبات الطلب أو التغييرات السياسية مستقبلاً.
وأضاف محيي الدين أن “الاعتماد على جهة واحدة يضعف قدرة البلاد التفاوضية في الحصول على شروط وتسهيلات تصدير جيدة أو أسعار معقولة وعادلة، كما أنه يثير شبهات باستخدام هذه الوجهة الوحيدة لبيع الذهب المهرب من خلال ضلوع شركات أو أفراد نافذين في عمليات التهريب، مما يفقد خزينة الدولة مليارات الدولارات سنوياً”.
الفساد المؤسسي
وأشار محيي الدين إلى أن محاولة الحكومة فرض رقابة على التعدين والسيطرة على الصادرات من خلال إنشاء بورصة للذهب وتشجيع بيعه للبنك المركزي، وسنّ تشريعات صارمة تجرم التهريب، كانت تصطدم بشبكات منظومة الفساد وضعف البنية المؤسسية، أو حتى النفوذ السياسي والاقتصادي لشركات تكاد تكون معلومة حتى لعامة الناس، ناهيك عن السلطات الرسمية.
ورأى الناشط الاقتصادي أنه بمعايير ومنظور المصالح الإقليمية والدولية فإن الذهب السوداني يعتبر مورداً إستراتيجياً لا للسودان وحسب، بل أيضاً للدول التي تستورده وتستخدمه في تعزيز احتياطاتها النقدية، وكوسيلة للضغط أو التأثير الاقتصادي والسياسي في بعض الأحيان.
تهريب مقنن
ويرى محيي الدين أن هيمنة بعض الشركات العسكرية والأمنية على العمل في مجال تعدين الذهب ونقله وتصديره تعتبر من أبرز ملامح تقاطعات الأزمة السياسية والاقتصادية في السودان، نظراً إلى الدور الكبير الذي تلعبه تلك الشركات التابعة للمؤسسات العسكرية والأمنية الرسمية، وكان بعضها يتبع قوات “الدعم السريع”، إذ تستغل نفوذها للعمل خارج الإطار الرقابي الرسمي ولا تلتزم بتحويل عائدات الصادرات لوزارة المالية أو البنك المركزي، وهو ما يعد فساداً وتهريباً شبه مقنن يسهم في إضعاف اقتصاد الدولة، وإضافة إلى كل ذلك فإن سيطرة تلك الشركات على عمليات الإنتاج والتصدير يعني بصورة أو أخرى أن قدراً غير يسير من الذهب خارج من نطاق الناتج القومي، مما يفوت على خزينة الدولة كماً كبيراً من العملات الصعبة، لتكون المحصلة النهائية زيادة في سعر الدولار مع تضخم وتراجع الثقة في الجهاز المصرفي، وفق محيي الدين.
ويعتقد المتحدث ذاته أن سيطرة الشركات الأمنية والعسكرية على قطاع تعدين الذهب تسهم في تهميش القطاعين الخاص والمدني، وتخلق بيئة طاردة للاستثمار المحلي والأجنبي، نظراً إلى إضعافها منافسة شركات القطاع الخاص لمصلحة شركات تتمتع بالنفوذ والسلاح في هذا القطاع الحيوي، والذي باتت تتجاذبه المصالح العسكرية وتغيب عنه الشفافية.
مساهمة المعادن
وأعلنت “الهيئة العامة للأبحاث الجيولوجية” أن قطاع المعادن يُسهم بـ 60 في المئة من العملة الصعبة في خزينة الدولة، وهو ما يعادل 60 في المئة من إجمال صادرات السودان، كما أعلن المدير العام للهيئة أحمد هارون التوم عن خطة خمسية (2025 2030) لتطوير البحث والاستكشاف والترويج لجميع المعادن، بما في ذلك المعادن الصناعية اللازمة لإعادة الإعمار، إضافة إلى معادن الطاقة والمشعة والثمينة، فيما أكدت وكيلة وزارة المعادن هند الصديق على دعم وتقويه قطاع التعدين وتطويره عبر الاستغلال الأمثل للمعادن من خلال رؤية إستراتيجية تتمثل في الاستدامة والاهتمام بالبيئة وصحة المواطن ودعم الاقتصاد الوطني.
تراجع وتقدم
ويحتل السودان المرتبة ما بين الـ 10 والـ 16عالمياً في إنتاج الذهب، وفقاً لـ “مجلس الذهب العالمي”، والمرتبة الثالثة في القارة الأفريقية، بوصفه من أكبر منتجي الذهب في القارة السمراء، وعلى رغم ذلك فهو لا يمتلك احتياطات كبيرة من المعدن، ويعتمد في إنتاج الذهب على القطاع التقليدي الذي ينتج ما بين 80 و90 في المئة من إجمال الإنتاج الذي وصل إلى ذروته بـ 107 أطنان عام 2017.
ومنذ اندلاع الحرب بين الجيش السوداني وقوات الدعم السريع منتصف أبريل (نيسان) 2023، تراجع إنتاج البلاد من الذهب ليصل إلى طنين فقط، مقارنة بإنتاج العام الذي سبقه حين تجاوز 18 طناً، نتيجة للارتفاع الكبير في كلفة الإنتاج، قبل أن يعود للتحسن من جديد ويصل إلى 64 طناً العام الماضي، تمثل 44 في المئة من إجمال إيرادات الدولة.
اندبندنت عربية
المصدر: صحيفة الراكوبة