د. ناهد محمد الحسن

فخ (الحزب الطليعي):

إذا كان المقال السابق قد توقف عند مأزق «العلم المطلق» في الماركسية، فإن هذا المقال يقترب من لحظة أكثر حساسية: لحظة تحوّل الفكرة إلى تنظيم، والنظرية إلى حزب، والحلم الأخلاقي إلى ممارسة سياسية يومية. هنا، لا يعود السؤال: ماذا تقول الماركسية؟ بل: كيف تعيش حين تُمارَس؟ ومن يقود باسمها؟ وبأي حق؟

في هذا الموضع تحديدًا، ظهرت فكرة الحزب الطليعي بوصفها حلًا تاريخيًا لمعضلة الوعي. فالجماهير، في التصور الكلاسيكي، تعيش داخل شروط القهر والاستغلال، وتُنتج وعيًا جزئيًا، مترددًا، أو مخدوعًا. أما الطليعة، بحكم دراستها للنظرية وانضباطها التنظيمي، فهي القادرة على رؤية البنية العميقة للواقع، وعلى توجيه الصراع نحو غايته النهائية. ففي اللحظة التي تقول فيها النظرية: “الجماهير لا تعرف مصلحتها، ونحن نملك أدوات الوعي العلمي”، تولد فكرة الطليعة.

وفي اللحظة التي تقول فيها الطليعة: “نحن نقود لأننا نفهم ما لا يفهمه الناس”، تولد الوصاية. وحين تتحول الوصاية إلى نظام، تصبح البيروقراطية، والانفصال عن الناس، وإعادة إنتاج السلطة، نتائج شبه حتمية. فالطليعة لم تتقدّم كقيادة سياسية فقط، بل كحارس للمعنى، ومالكٍ للقراءة الصحيحة للتاريخ.

في هذا التصور تكمن قوة الفكرة وخطرها في آن واحد. فحين يتحول الوعي إلى امتياز، يصبح السؤال: من يملك هذا الامتياز؟ وحين تُختزل الحقيقة في مركز واحد، يتحول الاختلاف من مورد للتعلم إلى تهديد للوحدة. ومع الوقت، يبدأ الحزب في تمثيل الجماهير أكثر مما يُصغي إليها، وفي تفسير الواقع بدلًا من التعلّم منه. وهنا، يتسلل فخّ الوصاية بهدوء، لا عبر القمع الصريح، بل عبر اللغة، والتنظيم، وتأجيل الأسئلة (إلى ما بعد).

هذا الانزلاق لا يحدث فجأة، ولا بالضرورة بسوء نية. غالبًا ما يتغذى على الخوف: الخوف من الانقسام، من الاختراق، من ضياع التضحيات. ومع القمع الخارجي، تميل التنظيمات الثورية إلى تشديد قبضتها الداخلية، فتُقدّم الانضباط على الحوار، والوحدة على التعدد، والاستمرارية على المراجعة. وهكذا تُعاد إنتاج بنية السلطة داخل التنظيم، حتى قبل أن يقترب من السلطة في المجتمع.

غير أن أخطر ما في فخّ الطليعة لا يظهر فقط في علاقتها بالجماهير، بل في علاقتها بالمعرفة ذاتها، وبالمثقفين الذين يُفترض أنهم أحد مصادر تجددها. فحين يصبح الحزب هو المرجع الوحيد للحقيقة، لا يعود المثقف شريكًا في إنتاج الوعي، بل يتحول إلى وسيط لتبريره. يُستدعى ليشرح الخط، لا ليُربكه، وليُجمّل القرار، لا ليختبره. وقد وصف (لوي ألتوسير) هذه الحالة، حين تحدث عن «أجهزة إنتاج الحقيقة» داخل الأحزاب، حيث تُصاغ المعاني في دوائر مغلقة، ثم تُقدَّم بوصفها معرفة علمية لا تقبل الجدل (1).

في هذا السياق، تصبح شهادة عبد الله علي إبراهيم ذات دلالة خاصة، لا بوصفها سيرة شخصية أو خلافًا تنظيميًا، بل بوصفها نافذة على هذا المأزق من الداخل. عبد الله لم يكن ناقدًا جاء من خارج التجربة، بل مثقفًا نشأ داخل الحزب الشيوعي السوداني، وعاش سنوات طويلة من الالتزام والعمل السري. خروجه في أواخر السبعينيات لم يكن بسبب انقلاب على الفكرة، بل بسبب ما وصفه بانكسار التعاقد بين الحزب والمثقف: ذلك الوعد بأن يعمل المثقف داخل التنظيم بوصفه مثقفًا، لا كادرًا سياسيًا مؤجَّلًا أو منبريًا احتياطيًا.

فبعد ثورة أكتوبر 1964، أقرت وثائق الحزب بالحاجة إلى جهد فكري وثقافي عميق، وإلى مثقفين يعملون داخل التنظيم كمثقفين، لا كمجرد أدوات تعبئة. لكن الممارسة، كما يروي عبد الله، سارت في اتجاه معاكس: استُدعي المثقف باسم هذه الحاجة، ثم زُجّ به في مهام تنظيمية وسياسية، ثم حُوسب لأنه لم ينتج معرفة، ثم أُعيد إلى «الجبهة الثقافية» بوصفها هامشًا آمنًا. مصادرة كتاب أو تعطيل نشر وثيقة لم تكن تفاصيل إجرائية، بل لحظات كاشفة عن خوف الطليعة من التفكير حين لا يأتي في صورة شعارات منضبطة.

هذا التوتر بين التنظيم والمعرفة لا يخص السودان وحده، لكنه في التجربة السودانية تداخل مع مجتمع شديد التعقيد: ديني، متنوع، غني بالحياة الاجتماعية، لا ينضبط بسهولة داخل قوالب طبقية صلبة. وكان يُفترض بالطليعة أن تتعلم من هذا التعقيد، لا أن تُدرّسه من فوق. غير أن النزعة التعليمية، واللغة الواعظة، والضيق بالاختلاف، جعلت الفجوة تتسع بين التنظيم والناس، وبين النظرية والواقع.

في هذا الموضع تحديدًا، يصبح السجال الذي دار لاحقًا حول الحركة النسوية السودانية كاشفًا بصورة أعمق. فحين درست الباحثة (سوندرا هيل) تجربة الاتحاد النسائي السوداني، لم تُنكر إنجازاته التاريخية ولا شجاعة رائداته، لكنها طرحت سؤالًا مزعجًا: هل كانت مشاركة النساء في الفضاء العام تحررًا كاملًا، أم إدماجًا منضبطًا داخل مشروع سياسي صاغه الرجال؟ حين وصفت الاتحاد النسائي بأنه «بيت شُيّد أبويًا»، لم تكن تقول إن النساء كنّ بلا فاعلية، بل كانت تشير إلى أن البنية التي احتوتهن ظلت، في جوهرها، بنية وصاية (2).

غير أن هذا السؤال، حين يُطرح من خارج التجربة، يحمل بدوره خطرًا آخر: خطر اختزال تاريخ طويل من المبادرة النسوية، والمفاوضة، والصراع الداخلي، في صورة «صنيعة حزبية». هنا جاء اعتراض عبد الله علي إبراهيم، لا دفاعًا عن الحزب بقدر ما هو دفاع عن فاعلية النساء أنفسهن، وعن معرفة محلية ترى في الاتحاد النسائي نتاج كادر نسائي واعٍ، لا مجرد ذراع تنظيمية. وقد نبّه إلى أن تجاهل هذا التعقيد يُعيد إنتاج شكل آخر من الوصاية، هذه المرة باسم المعرفة الأكاديمية الغربية (3).

ما يكشفه هذا التوتر ليس تناقضًا بسيطًا بين روايتين، بل مأزقًا بنيويًا أعمق. فالحزب الطليعي، حتى حين يدعم النساء، يفعل ذلك غالبًا من موقع من «يفهم أكثر»، فيعيد إنتاج الوصاية باسم التقدم. وفي المقابل، فإن القراءة الخارجية، حين تُسقط هذه الوصاية دون أن ترى شروط الفعل المحلي، تمارس هي الأخرى سلطة معرفية تُبسّط التجربة بدل أن تُنصت إليها. هكذا، تتقاطع وصايتان: واحدة تنظيمية من الداخل، وأخرى تفسيرية من الخارج.

بهذا المعنى، لا يكون السؤال: هل كان الاتحاد النسائي تحرريًا أم أبويًا؟ بل: كيف يمكن لحركة أن تُنتج إنجازًا حقيقيًا، وفي الوقت نفسه تُقيّده ببنية لا تسمح له أن يذهب إلى نهاياته؟ هذا هو فخّ الطليعة حين يتسلل إلى أكثر ساحات النضال حساسية: ساحة المرأة، والجسد، والمعرفة.

الاعتراف بهذه المفارقة لا يُضعف التجربة، بل يعيدها إلى حجمها الإنساني. فالأفكار الكبرى لا تموت حين تُنتقد، بل حين تُحصَّن ضد النقد. وربما ما نحتاجه اليوم ليس طليعة تفكر بدل الناس، ولا تنظيرًا يُقصي السياق، بل سياسة تتعلم، وتنفتح، وتقبل أن الوعي لا يُمنح من أعلى، بل يُبنى في حركة المجتمع نفسها، بكل ما فيها من تناقض، وتجربة، وخطأ، وتصحيح.

ونحن اذ نجلب هذا الموضوع الى الواجهة، لا نستدعيه كنقد من خارج التجربة ولكن نراجع مع الحزب الشيوعي السوداني وثائقه وتقاريره الحزبية وتساؤلاته وثورات مثقفيه..

نواصل..

المراجع:

  1. Althusser, L. Essays in SelfCriticism. London: New Left Books, 1976.
  2. Hill, Sandra. The Wing of the Patriarch. MERIP Reports, 1986.
  3. Ibrahim, Abdullahi Ali. The House That Matriarchy Built: The Sudanese Women’s Union.
  4. Lenin, V. I. What Is to Be Done? 1902.
  5. Arendt, H. Between Past and Future. New York: Viking Press, 1961.
  6. Mohanty, C. T. Feminism Without Borders. Duke University Press, 2003.

المصدر: صحيفة التغيير

شاركها.