ناهد محمد الحسن

د. ناهد محمد الحسن

من الصعب أن نعثر في التاريخ الحديث على فكرة أثارت هذا القدر من الحماسة الأخلاقية، والالتزام الوجودي، والاستعداد للتضحية، كما فعلت الماركسية. لم تعد الناس بجنة أخروية، ولا بخلاص بعد الموت، لكنها وعدتهم بعالم آخر على هذه الأرض: عالم بلا استغلال، بلا خضوع الإنسان للإنسان، وبلا امتياز يولد مع الطبقة أو الاسم. ولهذا بدت، منذ نشأتها، كأنها دين بلا غيب، وتحول كثير ممن اعتنقوها إلى حملة رسالة، لا مجرد متبنين لفكرة. لكن ما الذي يجعل فكرة قامت أساسًا على النقد والشك والتحليل، تنقلب في ممارستها إلى يقين مغلق؟ ولماذا تتحول نظرية وعدت بتحرير الإنسان من الوصاية إلى خطاب يُمارسها، أحيانًا دون أن ينتبه؟
لعل من المفيد هنا أن نوضح ما نعنيه بالماركسية في هذا السياق. فنحن لا نتحدث عن حزب بعينه، ولا عن تجربة دولة، ولا عن شعارات سياسية جاهزة، بل عن محاولة فكرية لفهم كيف تُنتج المجتمعات، وكيف تتشكل علاقات السلطة والثروة، ولماذا لا يكون الظلم مجرد انحراف أخلاقي، بل نتيجة لبُنى تاريخية واقتصادية محددة. في أصلها، لم تكن الماركسية وصفة للتغيير، بل أداة تحليل، وعدسة نقدية، تحاول كشف ما يبدو طبيعيًا ومسلّمًا به في حياتنا اليومية [1].في قلب هذه العدسة يكمن تصور خاص للحركة والتغيير. فالعالم، في هذا الفهم، لا يسير في خط مستقيم، ولا يعرف استقرارًا دائمًا. كل نظام يحمل داخله تناقضاته، وكل يقين يخفي نقيضه. هذا الفهم الذي يرى التناقض محرّكًا للتاريخ، لا خللًا فيه، هو ما عُرف لاحقًا بالتفكير الديالكتيكي. غير أن قوة هذا المنهج، حين تُقدَّم بوصفها علمًا صارمًا مكتملًا، تبدأ في إنتاج مفارقتها الخاصة.
قدّم ماركس وإنجلز مشروعهما بوصفه كشفًا لقوانين حركة المجتمع، على نحو يشبه قوانين الطبيعة. التاريخ، وفق هذا التصور، يمكن فهم مساره، والصراع الطبقي هو محرّكه الأساسي. هكذا بدت الماركسية لغة تفسير كونية، لا مجرد قراءة جزئية للواقع [1]. هذا الادعاء منحها قوة استثنائية، لكنه في الوقت نفسه جعلها عرضة للانغلاق. فحين تتحول النظرية من تفسير محتمل إلى حقيقة مكتملة، تميل من حيث لا تقصد إلى احتكار الحقيقة، والنظر إلى الاختلاف بوصفه جهلًا أو “وعيًا زائفًا”. وقد نبّه كارل بوبر إلى هذا المنزلق حين رأى أن الماركسية تبدأ كنظرية علمية، لكنها تنقلب إلى عقيدة حين تعجز عن قبول دحض الوقائع [2]. فكل حدث يمكن استيعابه داخل بنيتها التفسيرية: إذا ثار العمّال فالنظرية صحيحة. وإذا لم يثوروا فلأن وعيهم غير ناضج/زائف، فالنظرية أيضا صحيحة! فالثورة تؤكدها، وغياب الثورة يؤكدها أيضًا. والانهيار لا يُقرأ فشلًا. فإذا ما انهزمت الدولة الشيوعيّة، يعد انهزامها انحرافًا أو نتيجة ظروف موضوعية. ومع الوقت، تُحصَّن النظرية ضد الهزيمة، وحين تُحصَّن ضد الهزيمة، تُحصَّن كذلك ضد المراجعة.

عند هذه النقطة، تبدأ العلاقة بين الفكرة والتنظيم في التحول. من يمتلك هذا “العلم”؟ من يفسره؟ ومن يحق له أن يتحدث باسمه؟ هكذا يتشكل احتكار معرفي داخلي، يتحول فيه الحزب أو قيادته إلى مرجعية شبه كهنوتية دنيوية. لا تسمي نفسها كذلك، لكنها تمارس الوظيفة ذاتها: تفسير النصوص، فرز المؤمنين من “المنحرفين”، تحديد مقياس الطهارة الأيديولوجية، وتعليم “الوعي الصحيح”.. وهو ما يشبه ما وصفه لوي ألتوسير لاحقًا بـ «أجهزة إنتاج الحقيقة داخل الحزب»: تلك المساحات المغلقة التي تُصنع فيها المعاني، ثم تُقدَّم للجماهير بوصفها معرفة علمية لا تقبل الجدل [3]. وهكذا تبدأ النظرية، التي وُلدت لتحرير الإنسان من كل سلطة، في ممارسة شكل جديد من السلطة، أكثر نعومة، لكنه لا يقل انضباطًا. وهنا يبرز خطر إضافي: خطر تحوّل الماركسية إلى بنية لاهوتية غير مرئية. فهناك نص مؤسِّس، وشخصيات مرجعية، وتاريخ رمزي يُستدعى بوصفه لحظة خلاص، ووعد بمستقبل أرضي مثالي، وجماعة مختارة، ومنظومة أخلاقية تطهيرية تُقاس بها درجة النقاء الثوري. هذا التشابه لا يُقصد به السخرية، بل توصيف الطريقة التي تشتغل بها الفكرة في وجدان أتباعها. وقد أشار (روبرت وِثناو) إلى أن كل مشروع شامل للعدالة يحمل، بدرجة ما، بنية لاهوتية، حتى حين ينكر الغيب [4]. هذه البنية تمنح الماركسية قوة معنوية كبيرة، لكنها تجعلها أيضًا عرضة للجمود والانغلاق.
لكن هذه المفارقة لم تكن غائبة عن وعي اليسار السوداني نفسه. فبعيدًا عن الصورة الشائعة التي ترى الحزب الشيوعي تنظيمًا عقائديًا مغلقًا منذ نشأته، تكشف بعض وثائقه التأسيسية عن إدراك مبكر وخطير لمخاطر التحول من حزب حيّ إلى جهاز، ومن نظرية تحليل إلى لغة وصاية. ففي وثيقة المؤتمر الثالث عام 1963، دعا عبد الخالق محجوب بوضوح إلى إعادة النظر في العلاقة بين الحزب والجماهير، لا بوصفها علاقة تعبئة، بل علاقة معرفة متبادلة. شدّد على أن الجماهير ليست “موضوعًا” للتوجيه، بل فاعلًا حيًا، وأن الحزب إن لم يتعلم منها، سيتحوّل دون أن يشعر إلى بنية مغلقة تتحدث بلغة لا يفهمها الناس. لم يكن هذا نقدًا أخلاقيًا، بل تحذيرًا بنيويًا مبكرًا من فخ الحزب الذي “يعرف” ولا “يتعلم”.
بعد أربع سنوات، في تقرير 1967، لم يعد السؤال يدور فقط حول كيف نعمل وسط الجماهير، بل بدأ يلامس قلقًا أعمق: لماذا نعرف ما ينبغي فعله، ولا نستطيع فعله؟ هنا لم يعد النقد لغويًا أو تكتيكيًا فحسب، بل مسّ بنية التنظيم نفسها. بدأ يظهر إدراك بصعوبة تحويل الوعي النقدي إلى ممارسة داخلية، وبأن اللغة الطهرانية، والحرص على الانسجام، والخوف من التفكك، تجعل النقد ذاته خطرًا على التنظيم. فالنقد، في فقه التنظيم، عملية مؤجلة دائمًا إلى ما بعد “انتصار الثورة”، وحين تتأجل الثورات بفعل القمع والدكتاتوريات المتعاقبة، يتوقف الحزب عن التطور.
بين 1963 و1967، انتقل السؤال من إصلاح العلاقة مع الخارج إلى مواجهة العجز داخل الداخل. لم يكن هذا تراجعًا في الوعي، بل تصاعدًا في القلق. وهو قلق عبّر عنه أيضًا روبرت ميشيلز في ما سمّاه «قانون الأوليغاركية الحديدي»، حين لاحظ أن كل تنظيم، حتى الأكثر تقدمية، يميل إلى إعادة إنتاج نخبة ضيقة تحمي ذاتها باسم الاستمرارية [5].
هنا تتضح المفارقة الأعمق: ما فشل اليسار السوداني في تجاوزه لم يكن نقصًا في الوعي، بل عجزًا عن تفكيك البنية التي تحوّل الوعي نفسه إلى عبء. بنية تنظيمية تخشى الانقسام، وتحت ضغط القمع تميل إلى الانغلاق، وتستند إلى وهم الطليعة، وأخلاق تضحية تجعل السؤال نفسه يبدو خيانة. ومن المفارقات الدالة أن كارل ماركس نفسه كان واعيًا بهذا الخطر، حين قال ساخرًا: «أنا لست ماركسيًا». لم يكن يقصد التبرؤ من أفكاره، بل التحذير من تحويلها إلى عقيدة جامدة، ومن تقديس المنهج بدل استخدامه. كان يخشى أن يتحول السؤال إلى إجابة نهائية، وأن يصبح التحليل هوية مغلقة.
بهذا المعنى، فإن نقد تجربة اليسار في السودان لا يأتي من خارجها، ولا من بعد فشلها، بل من داخل أسئلتها الأولى. وهو نقد لا يهدف إلى المحاكمة، ولا إلى النوستالجيا، بل إلى فهم الفخاخ البنيوية التي تتكرر كلما تحولت الأفكار إلى مؤسسات.
إن القوة التي جعلت الماركسية قادرة على تحريك التاريخ، هي نفسها التي تجعلها تميل إلى التشدد ورفع راية “النقاء”. والاعتراف بهذا التناقض لا يُضعف الفكرة، بل يعيدها إلى حجمها الإنساني. فكما يقول (إريك أولن رايت): قيمة الماركسية لا تكمن في كمالها، بل في قدرتها على فتح أسئلة كبرى حول العدالة والتحرر [6].

لسنا اليوم في حاجة إلى هدم الأفكار التي أحببناها، بل إلى إنزالها من مقام اليقين إلى مقام السؤال، والنظر إليها كأدوات لا كهويات، وكخرائط لا كأرض. هناك فقط يمكن للديالكتيك أن يستعيد روحه الأصلية: أداة لفهم الواقع كما هو، لا لإجباره على أن يشبهنا.

المراجع:
1. Eagleton, T. (2011). Why Marx Was Right.
2. Popper, K. (1945). The Open Society and Its Enemies.

3. Althusser, L. (1976). Essays in SelfCriticism.

4. Wuthnow, R. (1988). Meaning and Moral Order.

5. Michels, R. (1911). Political Parties.

6. Wright, E. O. (2010). Envisioning Real Utopias.

المصدر: صحيفة التغيير

شاركها.