منعم سليمان

ضجّت المواقع أمس بصفقة ذهبٍ مشبوهة، وكأنّ الفساد حالة استثنائية نادرة في ظل سلطة لصوص الأمر الواقع الحاكمة في بورتسودان؛ تلك التي تتعامل مع السودان كسيادةٍ وجغرافيا وموارد مثل جثةٍ ملقاةٍ على الطريق، تتناوب على نهشها ضباعها الجائعة.
لا حديث هناك عن وطن، بل عن غنيمة؛ لا عن إدارة موارد، بل عن اقتسامها. فقد حوّلوا السياسة إلى سمسرة، والوزارات إلى شركات خاصة، والقوانين إلى ستائر مهترئة لا تُخفي عورة الجريمة بل تفضحها.

هناك تتوالد الشركات الوهمية كما تتوالد الديدان حول جثةٍ متعفّنة؛ أسماءٌ وهمية رنّانة تُسجَّل، ومكاتب فخمة تُفتَتح في عواصم أخرى، لكنها في جوهرها ليست سوى مغاسل للأموال، وأغطية أنيقة لنهب الموارد والذهب والمعادن. تُدار الصفقات في القاهرة، بينما الجوع يفتك بالشعب على الضفة الأخرى من النهر. في هذه الشركات، تتقاطع خيوط السماسرة واللصوص الكبار، جميعها تعود إلى مركز السلطة الأوليغارشية، حيث تُوزَّع الحصص كما تُوزَّع الغنائم بين قطاع الطرق!

المأساة لا تقف عند حدود المال؛ فحين تبسط الأوليغارشية سيطرتها على الدولة، تزدهر الصراعات الإثنية والعرقية والدينية، ويتمزق المجتمع، ويذوب الفارق بين العصابة والحكومة، ويتحوّل الوزير إلى شريك في صفقات النهب، وتتحوّل المناصب الوزارية إلى عقود امتياز، وتصبح السلطة نفسها سوقًا للريع، يتغذّى من السمسرة لا من الإنتاج، ومن النهب لا من التنمية والإصلاح، فتفسد جميع أوجه الحياة.

إنها حربُ كلابٍ متوحشةٍ لا تعرف إلا قاعدةً واحدة: أن كل شيء أمامها وليمة للأكل. في هذه الحرب يتقدّم سمسار اليوم إلى المنصب، ثم يتوارى ليحلّ محلَّه غول أكبر غدًا، لكن المعادلة ثابتة: وطن منكوب، موارد منهوبة، شعب مسحوق. كل مشروع جديد ليس سوى إعادة ترتيب للسرقات القديمة، وكل تعيين وزاري ليس إلا تدويرًا للأنصبة بين طغمة تتقاتل على نهش أوصال البلد حتى العظم!

وهكذا، لم تكن حربُ الإسلاميين سوى القناع الكالح الذي سمح للأوليغارشيات الريعية أن تخرج من جحورها. تحت دخانها عادوا إلى المسرح مرة أخرى، لا كحماةٍ للوطن كما يردّدون، بل كأوصياء على خرابٍ أكبر. ومع عودتهم عاد النهب منظَّمًا، واستُبيح المال العام كما تُستباح غنيمة بلا صاحب، وتحوّلت مؤسسات الدولة إلى مجرد واجهات لمافيات متعطشة.

كل يومٍ يمرّ يتأكّد فيه أكثر أن 15 أبريل المشؤوم لم يكن إلا يوماً لعودة الإسلاميين من تحت الأنقاض؛ عودة لم تحمل سلامًا ولا استقرارًا، بل أطلقت الفساد من عقاله. فمع عودتهم صار المال العام نهبًا سائغًا، وصارت سيادة البلاد بضاعةً رخيصة.

إنهم التجسيد الفعلي للخراب: بعودتهم تعود الطفيليات الضارة لتنهش الجسد، ويعود السلب ليملأ الخزائن التي أصابها الصدأ من طول البعد عن السلطة. وبعودتهم تحوّل السودان إلى مزادٍ كبير يُقرَع فيه الجرس لبيع سيادته وموارده .. وكرامته أيضًا، وباسم (الكرامة) إنا لله.

لم يعد في المشهد دولة، بل أوليغارشية بورتسودان: تحكم بالبندقية والذهب!

المصدر: صحيفة الراكوبة

شاركها.