أنماط طرائق التفكير السوداني «11»

عوض الكريم فضل المولى وحسن عبد الرضي

طرائق التفكير المدني والديمقراطي والحرية في السودان

يعد الشعب السوداني من الشعوب التي تمتاز بتاريخ طويل من النضال من أجل المدنية والديمقراطية والحرية، ودحر المستعمر والتدخلات الدولية لصناعة دولته، مما يشكل مصدر فخره واعتزازه وصون كرامته وبناء مستقبله.

وقد شهدت البلاد تحولات سياسية واجتماعية كبرى تعكس تطور التفكير المدني والوعي الديمقراطي لدى مواطنيها.

بدأ التفكير المدني السوداني يقوم على مبادئ المشاركة السياسية والمجتمعية، واحترام القانون، والتفاعل السلمي بين مختلف فئات المجتمع والأحزاب. وقد ترسخت هذه المبادئ لدى السودانيين عبر تجاربهم المختلفة، سواء من خلال العمل النقابي، أو المبادرات المدنية، أو الحراك السياسي الهادف إلى بناء مجتمع تسوده العدالة والمساواة. وتعد ثورة ديسمبر المجيدة نموذجًا احتفى به العالم قبل أهل السودان، وكان تأثيرها ظاهرًا على المنطقة العربية والمحيط الإفريقي.

ومن أبرز معالم التفكير المدني في السودان الحراك الشعبي السلمي، الذي استخدمه السودانيون في الاحتجاجات للتعبير عن مطالبهم السياسية والاجتماعية والاقتصادية، كما حدث في ثورات أكتوبر ١٩٦٤، وأبريل ١٩٨٥، وديسمبر ٢٠١٨. وقد لعبت النقابات العمالية والكيانات المهنية والمبادرات الشبابية دورًا رئيسيًا في تشكيل الرأي العام ورفع الوعي العام ودعم قيم المواطنة. أصبح لدى السودانيين وعي متزايد بأهمية حقوقهم السياسية والاجتماعية، مما دفعهم للمطالبة بحكومات مدنية تمثل تطلعاتهم.

تطور التفكير الديمقراطي في السودان على مدى العقود الماضية، حيث سعى الشعب السوداني إلى بناء دولة قائمة على الحرية والعدالة والمساواة والتداول السلمي للسلطة، ونبذ العنصرية والجهوية والطائفية التي أعاقت نمو الدولة السودانية على مر التاريخ. ومن أبرز مظاهر هذا التفكير التعددية السياسية، فعلى الرغم من التحديات، يتميز السودان بتنوع سياسي يعكس تعدد الآراء والمواقف بين مختلف مكونات المجتمع.

يسعى السودانيون باستمرار إلى بناء أنظمة حكم ديمقراطية عبر الانتخابات والحوارات الوطنية، ورفض الحكم الاستبدادي. وعبر التاريخ، كان السودانيون في مقدمة الشعوب التي رفضت الأنظمة العسكرية والديكتاتورية، مطالبين بحكومات مدنية ديمقراطية تنادي بالحرية كمطلب أساسي.

إذ تُعد الحرية من القيم الجوهرية التي يطمح إليها السودانيون، سواء على المستوى الفردي أو الجماعي. وقد شهد السودان العديد من الثورات والانتفاضات التي كان محركها الأساسي هو المطالبة بالحرية من القمع السياسي والتهميش الاجتماعي والمناطقي والاقتصادي.

وتتجلى أهمية الحرية في حرية التعبير وإبداء الرأي عبر الإعلام ووسائل الميديا الحديثة. وأصبح الإعلام السوداني أكثر انفتاحًا، حيث تعبر الصحف ومنصات التواصل الاجتماعي عن آراء المواطنين بحرية متزايدة. كما أن حرية التنظيم والتجمع تسهم في تشكيل المشهد السياسي والمجتمعي من خلال الأحزاب السياسية والنقابات ومنظمات المجتمع المدني، مما يعزز ثقافة الحرية.

كما أن حرية الفكر والإبداع جعلت السودان موطنًا للإبداع الثقافي والفني، حيث أنتج الفنانون والأدباء أعمالًا تعكس تطلعات الشعب نحو الحرية والكرامة.

ورغم التحديات السياسية والاقتصادية، يواصل الشعب السوداني نضاله من أجل تحقيق دولة مدنية ديمقراطية تضمن حقوق جميع مواطنيه. إلا أن هناك العديد من العوائق التي تعترض تحقيق هذه الطموحات، وتتراوح بين السياسية والاقتصادية والاجتماعية والأمنية، مما يجعل الطريق إلى الديمقراطية والاستقرار معقدًا ويحتاج إلى جهود فكرية متواصلة.

لقد شهد السودان فترات طويلة من الانقلابات العسكرية والصراعات السياسية، وما نعيشه الآن هو نتاج طرائق التفكير القائمة على المصالح والأيديولوجيات والجهويات والإثنيات والانتماءات الشخصية، مما يدل على غياب التفكير في مصلحة الوطن والشعب. إن التشرذم والانقسامات السياسية، سواء داخل السودان في بورتسودان أو خارجه في أديس أبابا أو نيروبي أو غيرها من بلاد المهجر، تعكس أنماط تفكير غير إيجابية ساهمت في تعطيل مسار التحول المدني والديمقراطي.

ولا تزال العديد من مؤسسات الدولة تفتقر إلى الاستقلالية والكفاءة، ليس فقط على المستوى الأكاديمي، بل أيضًا بسبب سيطرة الانتماءات الفكرية والمذهبية، مما يعيق بناء نظام ديمقراطي مدني قوي. كما أن غياب التفكير في التوافق الوطني أدى إلى الانقسامات السياسية بين الأحزاب والقوى المدنية والعسكرية، مما عرقل عملية بناء دولة مدنية ديمقراطية. فاستمرار النزاعات في مناطق مثل دارفور، وجنوب كردفان، والنيل الأزرق يشكل عقبة أمام الاستقرار والسلام. وانتشار المليشيات والجماعات المسلحة وغياب سيطرة الدولة يزيد من حالة عدم الاستقرار الأمني. كما أن التدخلات الخارجية تؤثر سلبًا على الأوضاع الأمنية، حيث تدعم أطرافًا مختلفة في الصراع السياسي.

أما على الصعيد الاقتصادي، فإن السودان يعاني من أزمات حادة مثل التضخم والبطالة وارتفاع أسعار السلع الأساسية، مما يؤثر على قدرة الدولة على تقديم الخدمات الأساسية مثل الكهرباء والمياه والصحة والتعليم. كما تعاني مؤسسات الدولة من الفساد، مما يعرقل التنمية ويضعف ثقة المواطنين في الحكومة.

على الرغم من غنى السودان بتنوعه الثقافي والمناخي، وجغرافيته الغنية بالأنهار والموارد الطبيعية، إلا أن النزاعات القبلية وعدم تحقيق العدالة الاجتماعية تؤدي إلى صراعات داخلية. كما لا تزال بعض الفئات ترى في الحكم العسكري والاستبداد خيارًا لحفظ الأمن والاستقرار، مما يعيق ترسيخ الثقافة الديمقراطية. ظهرت الحاجة إلى دستور دائم متوافق عليه يحدد بوضوح طبيعة الحكم المدني والديمقراطي. وإصلاح القضاء لضمان استقلاليته ومنع التدخلات السياسية في عمله. ويعزز قيم التوافق الوطني لتجاوز الخلافات السياسية والإيديولوجية. ويحقيق العدالة الاجتماعية لضمان استقرار المجتمع وتقليل النزاعات القبلية.

ورغم التحديات السياسية والاقتصادية، يواصل الشعب السوداني نضاله الفكري من أجل تحقيق دولة مدنية ديمقراطية تضمن حقوق جميع مواطنيها. ولا شك أن الإصرار على هذه القيم سيظل هو الطريق نحو مستقبل أكثر استقرارًا وعدالة.

المصدر: صحيفة التغيير

شاركها.