اخبار السودان

أنماط طرائق التفكير السوداني (٢١)

عوض الكريم فضل المولى

وحسن عبد الرضي

 

عندما يظنّ الفاسدون أنهم على حق، ويُتّهَم أهل الحق بالباطل.

 

من أكثر ما يُؤلم في الحروب الأهلية أن تنقلب المفاهيم، فيُصبح الظالم مدّعيًا للحق، والمظلوم متّهَمًا بالخيانة. وفي السودان، حيث تدور رحى حرب عبثية بين مكوّنات عسكرية كانت يومًا شريكةً في السلطة، يبرز هذا المشهد بوضوح: قوى فاسدة ومسلّحة تزعم الدفاع عن الوطن، بينما تمارس القتل والنهب ضد أبناء شعبها، وتُخوّن كل من يدعو للسلام أو يرفض عسكرة الدولة.

 

وفي فترات الاضطراب، تختلط الأوراق على العامة، ويعلو صوت السلاح فوق صوت العقل. يصبح من يملك القوة هو من يكتب الرواية. وفي السودان، نجد كلا طرفي الصراع الجيش والدعم السريع يدّعيان حماية الوطن وشعبه، بينما هما في الواقع يدمّران ما تبقى منه. هذه المفارقة تجسّد ما حذّر منه التاريخ مرارًا: حين يستقوي الفاسد بالسلاح، والدين، والقبيلة، والجهوية، والدعم الخارجي، يتحوّل إلى طاغية يقتل باسم الفضيلة.

 

ما يزيد المأساة عمقًا هو استغلال القوى العسكرية للشعارات التي نادى بها الشعب السوداني في ثورته الحرية، السلام، والعدالة شعارات رفعها الشعب لنفسه، لا لتكون أداة بيد من صادروا ثورته. فالجيش يتحدث عن “الحفاظ على السيادة”، بينما يخضع لتحالفات إقليمية، والدعم السريع يزعم “حماية الثورة”، وهو نفسه متّهم بارتكاب مجازر في دارفور، والجزيرة، والخرطوم، وسنار، وغيرها.

 

وهكذا تُسرق الثورة مرتين: مرة حين أُقصي المدنيون، ومرة حين صُوّر القتلة كحُماتها.

 

من يدفع الثمن الحقيقي؟ الشعب السوداني، في الخرطوم ودارفور ونيالا وكردفان وولايات الشمال والشرق. الملايين من المشرّدين، والقتلى، والمفقودين، وأصحاب الأمراض المزمنة، وذوي الحاجات الخاصة، والنساء، والأطفال … جميعهم شهود صامتون على حجم الزيف الذي يُمارس باسم الوطنية.

 

وفي هذا السياق، يُتّهم الناشطون والثوّار الحقيقيون بأنهم “عملاء” أو “متآمرون”، فقط لأنهم يرفضون عسكرة الدولة أو الهيمنة على القرار المدني.

 

تحت هيمنة الدعاية الحربية، يصبح دور المثقفين، والإعلاميين، والناشطين بالغ الأهمية. لا بد من فضح زيف الخطاب العسكري من كلا طرفي الصراع الذي يُجمّل الجريمة، وتوعية الناس بأن الحق لا يُقاس بالقوة، بل بالمبادئ والمواقف. فمَن يدافع عن الإنسان وحقوقه، حتى إن بدا ضعيفًا، هو أقرب إلى الحق من حامل السلاح الذي يقتل باسمه.

 

الحق لا يموت، وإن حاصرته الدبابات. والحقيقة لا تنطفئ، وإن غيّبتها دعايات الحرب. سيأتي يوم يُسأل فيه كل طرف: ماذا فعلت بحق السودان؟ وماذا فعلت بشعبه؟ وستُكتب الرواية الحقيقية بأقلام الناجين، لا ببنادق القتلة.

 

السودان ليس غريبًا على الانقلابات العسكرية أو الحكم القمعي. فمنذ الاستقلال، سيطر العسكر على السلطة في فترات طويلة، وغالبًا ما تمّ ذلك بشعارات وطنية مثل “حماية البلاد من الفوضى” أو “حراسة الثورة”. لكن التاريخ أثبت أن تلك الشعارات لم تكن سوى ستار لحماية مصالح ضيقة، وتثبيت أقدام النخب العسكرية والقبلية على حساب تطلعات الشعب.

 

[email protected]

المصدر: صحيفة الراكوبة

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *