الأغنية الآن تمر مثلها مثل كل ما يتعلق بالسودان من اقتصاد وصحة وسياسة وأمن
في زمنٍ يتشظّى فيه الوجدان السوداني بين صوت الرصاص وصدى الذاكرة، يطلّ الفن كآخر ما تبقّى من ملامح الجمال والرحمة.
في هذا الخراب الممتد، لا يجد الفنان سوى صوته ليقاوم به الصمت، ولا يملك سوى نغمةٍ نقيّة تُذكّر الناس بأن الوطن لا يُغنّى له بالسلاح، بل بالأمل.
الفنان أبو بكر سيد أحمد من الأصوات التي اختارت أن تمشي بخطواتٍ وئيدة لكنها ثابتة، باحثًا عن معنى الفن في زمن الفقد، ومؤمنًا بأن الأغنية ليست ترفًا، بل فعل وعي وموقف.
بين الذاكرة والواقع، بين الحنين والمقاومة، يتحدث أبو بكر هنا بصدقٍ موجع عن تجربته، وعن معنى أن تكون فنانًا في وطنٍ تتكسّر فيه الأصوات قبل أن تكتمل الجملة الموسيقية.
حوار _ التغيير
كيف تصف مسيرتك الفنية منذ انطلاقتك وحتى اليوم؟
أتحرّى الخطوات ببطء، ولكنني راضٍ تمامًا عن الأداء، لأن تناولنا للغناء نفسه تناول نوعي. نغني الغناء القديم الراسخ وأغنيات جديدة نأمل من خلالها أن نحقق إضافة حقيقية.
في زمن الهرجلة الشديدة واستسهال الغناء، أصبح كل من هبّ ودبّ يستطيع أن يغني، لذلك تبقى مسيرتنا متعثّرة ومتعسّرة شيئًا ما، ولكننا نثق في أنفسنا.
هل ترى نفسك امتدادًا لجيلٍ سابق من الفنانين أم صاحب مشروع تجديدي خاص بك؟
لديّ عدد من الأغنيات الخاصة لحّنتها وأدّيتها، وهي فائزة في مهرجانات عديدة. أعتقد أن الفنان إذا لم يكن إضافة ولم يحقق مشروعًا تجديديًا، فلا داعي له.
صحيح أن علينا مسؤولية تجاه إحياء القديم الجميل الذي لا يستحق أن يندثر، ولكن في النهاية يظل مشروعك الخاص ورؤيتك التجديدية هي التي تصنعك وتصنع اسمك الحقيقي.
كيف تقيّم حال الأغنية السودانية اليوم؟ وهل ما زالت تعبّر عن وجدان الناس وهويتهم؟
الأغنية السودانية الآن تمر، مثلها مثل كل ما يتعلق بالسودان من اقتصاد وصحة وسياسة وأمن وأمان، بمنعطفٍ خطر جدًا. كثر فيها اللغط وكثر فيها الغث وأدعياء الانحطاط، للأسف، الذين يعبرون عن محمولات هذه الفترة القبيحة.
نسأل الله أن يُقيل الأغنية من عثرتها، ويكرمنا ويكرم السودان كله بالنجاة من هذه المهالك.
يراك النقاد “فنانًا مثقفًا وواعيًا”.. ما معنى أن يكون الفن واعيًا في رأيك؟
أتمنى أن أكون كما يظن النقاد. الكل يتفق على أن الفنان الواعي هو المدرك لقضايا قومه، وهو الذي يقدم ما يقابل محبة الناس له ووعيًا وإدراكًا وحسًا إنسانيًا.
ليس على الفنان أن يستجيب لكل ما يطلبه الشارع السوداني، فالفنان ليس مطالبًا بذلك، بل أن يعطي أمته ومجتمعه ما يُصلحهم، حتى لو لم يكن على هواهم.
نحن الآن نقول: لا للحرب. نحن ضد الحرب وضد أطرافها الاثنين، ضد الجنجويد والكيزان الذين أشعلوا الحرب.
الحقيقة أن الحرب ليست بين الجنجويد والجيش، بل بين الدعم السريع والكيزان. القوات المسلحة جُرّت جرًّا إلى الحرب، ونعتقد أن هذه هي الرؤية الحقيقية رغم التغييب الحاصل. أنا كفنان موقفي يفترض أن يكون موقف نصيحة، وليس تابعًا لأي طرف.
كيف يمكن للفنان أن يحافظ على أصالته وهو يجرب أساليب جديدة دون أن يفقد جمهوره؟
لا يوجد تعارض بين الأصالة والتجريب، فالفنون عمومًا محور سعيها وغاياتها هو التجريب.
تبتدع الجديد وإلا ستكون محلك سر، تنسخ تجربة قديمة ولن تضيف شيئًا.
ولابد أن تكون شجاعًا، لأنك بعدها ستبدع فنانًا واسما جديدًا وإضافة حقيقية تشكل القيمة المضافة للأعمال الفنية.
يمكن أن تكون أصيلًا متمسكًا بمبادئ الأصالة ومحافظًا على نمط محدد تحبه وتحرص على استمراره من خلال التجديد.
السودان يعيش حربًا مؤلمة.. كيف انعكست هذه الظروف عليك كإنسان وكفنان؟
السودان يعيش حربًا مؤلمة، ومثلي مثل جميع أهلي في البلاد، هذه الحرب لم ينجُ منها أحد.
انعكست علينا بفقدان أرواح نحبها، ولجوء قسري لم نكن نقصده ولا نتخيله، والبعد عن الأحبة.
هذا البعد الاجتماعي يُلقي بظلاله على الفنان، فتتحول لغته إلى لغة أقرب إلى البكائية، وإن كنا نحاول مقاومة ذلك وإعادة التوازن.
ما يُقلق السودانيين ويبكيهم يفترض أن يكون معادله الموضوعي هو أن نغني للحب والجمال والفضيلة. نصيب أحيانًا ونخطئ أحيانًا أخرى، لكن الضغوط النفسية ثقيلة جدًا على السودانيين، والفنان بشكلٍ خاص.
هل تعتقد أن الفن يمكن أن يكون وسيلة مقاومة في زمن الحرب؟
الفن يفترض أن يكون وسيلة مقاومة في زمن الحرب، مقاومًا للحرب نفسها. لا يوجد فنان واعٍ في الكون يدعم حربًا أو يدعم الموت.
الفنان لا يخوض في تفاصيل من المخطئ ومن يجب القصاص منه، بل يدعو إلى قيم الحياة والنماء والاخضرار، وليس للموت.
“لا للحرب” هي رسالة الفنان في كل زمان ومكان، وهي ميثاق عالمي اتفق عليه الفنانون في جميع أنحاء العالم (السلام العالمي).
ما الرسالة التي ترغب في توجيهها من خلال فنك للسودانيين داخل الوطن وخارجه؟
اللهم أنزل الغشاوة عن أهلي حتى لا يتحزبوا ضد بعضهم البعض.
كل الأمنيات أن ينقشع التغييب عن الشعب السوداني في مناصرته للحرب واستخدامه كوقود في حملات وعبارات مثل “بل بس” و”جغم بس” التي تقود إلى موتٍ محقق.
الذين يموتون هم سودانيون، ومن يدفع الثمن هو البلد.
أتمنى أن يعي الناس أن الحرب لا رابح فيها، وأن البلد هو الخاسر الأول. الفقد يتمدد من فقد الوجدان والضمير أولًا إلى فقد الأجساد نفسها.
اللهم اهدِ قومي فإنهم لا يعلمون.
كيف يمكن للفن أن يساهم فعليًا في تحقيق السلام وليس فقط التغنّي به؟
الفنان ليس له حيلة سوى أن يبدع فنه في تحقيق السلام. الفنان الواعي لا يكون مقاتلًا أو منحازًا لأي طرف من طرفي الحرب.
توظيف أداة الفنون نفسها لمجابهة كل أنواع القبح، وعلى رأسها سفك الدماء، هو الطريق.
الفنان يستطيع أن يساهم فعليًا بالتغني للسلام حتى يتحقق، من خلال نشاطات المسرح والسينما والتلفزيون والتشكيل.
لو كتبت أو غنّيت للسودان اليوم، ما الكلمات أو الصور التي تعبّر عن وجعك وأملك؟
صور أهلي في الفاشر الذين مُزّقت أرواحهم بلا حول ولا قوة منهم ودون ذنب، البراءة التي تُقتل كل يوم في بلادي، صورها تتراءى أمام الأعين.
الزرع والضرع الذي يُقصف، والأوجاع أمام ناظرينا.
سنغني دائمًا للسلام، في كل أنحاء الأرض، وسنبكي كما نبكي في الغناء وبالموسيقى.
دارفور منذ 2003 تنزف، وجزء كبير من قومي لا يعلمون عنها شيئًا، ولكن عندما تمددت الحرب عرف الناس قيمة الفقد والجزع.
نسأل الله أن يوقف هذه الحرب الملعونة، وأن ينتقم ممن أشعلها ومن خاض فيها، وأن يُسبغ على السودانيين نعمة الأمن والسلام والاستقرار.
المصدر: صحيفة التغيير