اخبار السودان

 أم الخير تموت في اليوم التاسع والأحمر يحرس قبر سيده!

استيقظت الحاجة أم الخير فزعة على صوت طلقات رصاص، وضع ابنها الخير طعام الإفطار بجانبها فعرفت انه على وشك الذهاب الى عمله، قالت أم الخير: ما الذي يحدث في الخارج هل سوف يقاتل الناس بعضهم في الشوارع؟

قال الخير وهو يرتدي ملابسه داخل غرفته: لا بد ان قوات الجيش تقوم بتدريبات على أسلحة جديدة، هل نسيت اننا نسكن قريبا من قيادة الجيش العامة؟

قالت أم الخير: منذ أكثر من أربعين عاما لم اسمع أصوات نيران بهذه القوة، المرة الأخيرة كانت حين ضربوا الأولاد المعتصمين أمام قيادة الجيش!

كان الخير يتأهب للخروج، وضع لها جهاز التليفون المحمول بجانبها حتى تتصل به كالعادة ان احتاجت لشيء.

صرخت أم الخير: هل جننت كيف تخرج مع ضرب النار هذا؟

قال الخير: هذه تدريبات عادية، ينتظرني جارنا ضو البيت لفحص الموتور الذي يسحب الماء، كما لدي مواعيد لتركيب الكهرباء في بيت في الصحافة!

قالت الأم: لن تخرج الآن، انتظر قليلا حتى نعرف ما الذي يحدث!

طمأنها الابن، لا يمكنني البقاء، ليس لدينا خبز ونحتاج لأشياء أخرى، يجب ان اعمل حتى أتمكن من شراء مستلزمات البيت. سأخرج لأرى ان كان الوضع هادئا، ان كان هناك شيء سأعود بسرعة.

وضع الخير بعض قطع الخبز الجافة والعظام التي عثر عليها في المطبخ أمام كلبه وربت على رأسه قبل أن يخرج.

كانت تربطه علاقة قوية مع كلبه، قبل أشهر أنجز بعض الأعمال لأحد زبائنه فأهداه الرجل كلبا، قال الرجل ان أولاده يحبون الكلاب لكن عددها في البيت أصبح أكبر من عدد سكان البيت، قام بإهداء اعداد من الجراء لجيرانه ومعارفه ممن يهوون تربية الكلاب، ولا يزال هناك الكثير. ابتسم قائلا للخير: يمكنك أخذ ثلاثة او أربعة إن أحببت! لكن الخير اكتفى بواحد، أوضح للرجل: لا يوجد في بيتنا من يعتني بثلاثة أو أربعة كلاب، أعمل كثيرا ووالدتي مريضة، سيكون هذا كافيا لي في الوقت الحالي!

قالت والدته يوم احضر الكلب: حجمه صغير مثل قط، يشبه الأحمر، القط الذي أهداه لنا أحد جيراننا قبل سنوات حين تكاثرت علينا الفئران في البيت، ثم اكتشفنا أنه كان يلعب مع الفئران ولا يصطادها! حين جاء أولاد اختك فاطمة من السفر كانوا يلعبون معه وهم من أطلقوا عليه اسم الأحمر.

لون الكلب كان اشبه بلون الخشب لكن الخير وبسبب كلام والدته عن شبه الكلب بالقط، اسماه الأحمر. اعتاد الكلب على الاسم سريعا وبمجرد ان ينادي الخير باسمه كان الكلب يقفز سريعا ويجلس بين قدمي سيده.

لم يصدق الخير حين خرج الى الشارع ان هناك معركة حقيقية كانت تدور في المنطقة حول بيتهم، لاحظ بسرعة ان هناك جنود يتحركون في الميدان الذي يقع أمام بيتهم، لم ير اية عابر في الشارع سوى الجنود، حتى انه شعر لوهلة كأنه وحيد في المدينة كلها، أين ذهب الناس تساءل بفزع وماذا يفعل هؤلاء الجنود. تردد قليلا لكن الهدوء الذي ساد لبعض الوقت شجّعه ليواصل طريقه، يقع بيت ضو البيت جارهم في الجانب الآخر من الميدان الذي يطل عليه بيتهم، بجانب المكان الذي شاهد فيه الجنود دون ان يفهم سبب وجودهم هناك.

بقيت الام في انتظار الابن، وحين تأخر بدأت تنادي عليه بأعلى صوتها دون مجيب، جرّبت الاتصال بالتليفون المحمول، كان الجرس يدق لفترة دون مجيب، حاولت الام ان تتحرك لترى ما يجري في الخارج لكنها سقطت ارضا، كانت تعاني من مشاكل في ركبتيها وآلام حادة في ظهرها، ولا تتحرك بصعوبة الا بمساعدة ابنها. جربت الاتصال بعدد من جيرانهم ممن تحتفظ بأرقام تليفوناتهم لكن أحدا لم يرد عليها.

كان الابن قد سار عبر الميدان مقتربا من الجنود عله يجد من يسأله عما يحدث، لكنه حين وصل منتصف الميدان اصابته طلقة رصاص في رأسه اردته ارضا على الفور.

بدأ الكلب يعوي في الداخل، كان باب البيت مغلقا، بقي الكلب لبعض الوقت يحاول فتح الباب دون جدوى. شعرت الام أن مكروها أصاب ابنها، بدأت في غمرة البكاء تنادي بأعلى صوتها علّ أحدا من الجيران يستجيب لها لكن دون جدوى.

في اللحظات التي يتوقف فيها صوت طلقات الرصاص كان صمت كثيف يغمر العالم من حولها، كأن الناس جميعا قد هجروا المدينة. شعرت بالعطش، كان الخير قد وضع لها طعام الإفطار بجانبها، لكنه نسي ان يحضر لها كوب ماء. زحفت ارضا بصعوبة نحو صنبور الماء في الفناء. لم يكن الصنبور يبعد منها أكثر من أمتار قليلة لكنها استغرقت وقتا طويلا وجهدا فائقا حتى تصله، رقدت على ظهرها بجانب الصنبور لترتاح قليلا، قبل ان تمد يدها لتفتح الصنبور لتكتشف انقطاع خدمة المياه، لحسن الحظ كان الخير يضع اناء من البلاستيك بجانب الصنبور يملأه بالماء تحسبا لانقطاع المياه أحيانا. مدت أم الخير يدها وبللتها بالماء وامتصت الماء من اصابعها، لم تكن قادرة على الانحناء فوق الاناء لشرب الماء، بقيت لبعض الوقت تبلل يدها وتمتص قطرات من بين أصابعها، رقدت لفترة بجانب الصنبور رغم ارتفاع حرارة الشمس حتى تستجمع قوتها ولاحظت أنّ الكلب لا يزال يحاول فتح الباب، نادت عليه، جاء الكلب مسرعا وشرع يدور من حولها مصدرا نباحا حزينا، بدأت تزحف عائدة الى فراشها في السقيفة الصغيرة بجانب شجرة الليمون في الفناء.

كانت تحاول كل بضع دقائق ان تعاود الاتصال بتليفون الخير دون جدوى. استغرقت بسبب تعبها من رحلة البحث عن ماء، في نوم متقطع ولم تشعر بالرغبة في تناول اية شيء من الإفطار الذي احضره ابنها.

حين حل المساء، وخفتت أصوات الرصاص، كانت لا تزال تشعر بالقلق على الخير، تمنت ان يكون في مكان ما مشغولا بعمله، كان الخير يعود أحيانا في وقت متأخر، لكنه كان في تلك المرات القليلة التي يتأخر فيها يتصل بإحدى جاراتهم لتطمئن على والدته وتساعدها ان احتاجت لشيء. حاولت أم الخير الاتصال برقم جارتهم لكن التليفون لا يرد.

طوال الليل لم يغمض لها جفن سوى للحظات قليلة، عرفت ان ابنها لابد قد أصابه مكروه، أدت صلاة العشاء في فراشها بعد ان مسحت على يديها ووجهها بحفنة تراب بسبب صعوبة الوصول للماء، نادت على الكلب لكنه لم يستجيب لندائها. حين بدأ ضوء الصباح ينتشر من حولها شعرت ببعض الجوع فمدت يدها لتأكل قطعة خبز من إفطار الامس الذي كان لا يزال بجانبها، كان الخبز قد أصبح جافا، اكلت قليلا منه حتى لا تشعر بالعطش، قبل ان تزحف الى مكان جردل الماء، مسحت على وجهها ويديها برفق بعد ان بللت يدها بالماء، وجدت صعوبة شديدة في ملء كوب الماء الذي أحضرته معها حتى انها تركته ارضا. نظرت باتجاه الباب ففوجئت بالباب مفتوحا، هل استطاع الكلب فتحه؟ سمعت من على البعد صوت عراك كلاب فخمنت أن الأحمر يخوض معركة في الشارع، وقدّرت انه بحجمه الصغير لن يصمد طويلا.

بالفعل كان الأحمر يخوض معركة قاسية في الميدان لحماية جثة سيده من الكلاب الضالة التي هاجمتها بضراوة، استطاع الكلب رغم صغر حجم جسمه من طرد الكلاب الضالة بعد معركة شاقة أصيب فيها بعدة كدمات وجروح، عاد الى البيت يدور حول أم الخير كأنه يطلب مساعدتها. لم تفهم أم الخير ما الذي يريده الكلب، كان الكلب يعود مسرعا الى الميدان كلما شعر بعودة الكلاب الضالة لتأكل من الجثة التي تمزقت بعض اوصالها بسبب عراك الكلاب فوقها.

في اليوم الثالث كانت أم الخير قد فقدت أية اتصال بالعالم، نفذت بطارية التليفون، لم تعثر في البداية على شاحن التليفون ثم انقطعت الكهرباء. بسبب نوبات البكاء والقلق جف صوتها فلم تعد تستطيع حتى الصراخ لتنادي على ابنها أو أملا في ان يسمع صوتها أحد الجيران او المارة.

بسبب الجوع الشديد اكلت بقية كسرة الخبز، وجدت ان طعم الفول الذي تركه ابنها لإفطارها قد تغير بسبب حرارة الجو، فوضعته ارضا حتى يأكله الأحمر. زحفت لترقد ارضا بحثا عن العصا التي تتوكأ عليها، حين عثرت عليها شعرت بالحاجة للذهاب للمرحاض، لكن المرحاض بعيد في نهاية الفناء من الناحية الغربية، تبولت في الفناء قريبا من فراشها. ثم زحفت عائدة الى الفراش. في اليوم الثالث كان العالم لا يزال صامتا الا من صوت زخات الرصاص بين الفينة والأخرى، وصوت ازيز الطائرات واصوات انفجارات بعيدة.

زحفت الى المطبخ في اليوم الثالث تبحث عن شيء يصلح للأكل. كانت لا تزال تعيش على امل قليل ان ابنها سيعود في اية لحظة. عثرت على كيس مكرونة وبعض الأرز، لم تتمكن من الوقوف لتشعل الموقد لتعد الأرز، حملت المكرونة وزحفت عائدة الى فراشها. اكلت قليلا منها وخشيت ان تسبب لها المكرونة الجافة آلاما في بطنها، لكنها في اليوم الرابع كانت قد اكلت العبوة كلها ولا تزال تشعر بالجوع، لم تجد شيئا في المطبخ، كان ابنها نادرا ما يضطر لطبخ طعام في البيت، بسبب حضوره متأخرا من عمله كان يحضر معه دائما شيئا جاهزا للأكل من المطاعم القريبة او التي تقع في طريق عودته، كان يحضر الفول والطعمية وأحيانا بعض اللحم المطبوخ. وربما لأن الثلاجة تعطلت منذ فترة بسبب عدم استقرار الكهرباء لم يكن الخير يفضل طبخ الطعام في البيت.

في اليوم الرابع كانت حبوب دواء ضغط الدم قد نفدت، لكنها كانت تشعر بأنها بخير لا تعاني من صداع او اية أعراض أخرى، ربما بسبب الصيام الاجباري. احضرت حبوب الأرز من المطبخ وأكلت منها قليلا فشعرت بآلام في بطنها، في تلك الاثناء كان الأحمر يبقى طوال اليوم خارج البيت، لم يكتف بحراسة جثمان سيده، لكنه حاول جاهدا ليغطي الجثمان بالخرق التي كان يجمعها من المزابل القريبة، كأنه في البداية كان يشعر ان سيده النائم سيعاني من برودة الجو ليلا، لكنه في الأيام التالية حين طال نوم سيده، يبدو انه شعر ان سيده لن يستيقظ مرة أخرى فبدا يسحب التراب بجسده ويحاول دفن الجثمان لتبتعد عنه الكلاب الضالة.

في اليوم السادس زحفت أم الخير مرة أخرى بصعوبة بسبب إنهاك الجوع الى المطبخ وبحثت مرة أخرى عن اية شيء يصلح للأكل، عادت وفي يدها سكين يستخدمه ابنها لتقطيع اللحم حين يطبخ أحيانا في البيت، مفكرة ان تحاول اصطياد عصفور من العصافير التي تغرد فوق شجرة الليمون في ساعات الضحى. لكن بدا لها كأنّ العصافير قد تبعت الناس في رحلة الفرار من الموت.

في اليوم الثامن كانت قد فقدت تقريبا القدرة على الحركة حتى انها ألقت بنفسها بصعوبة ارضا لتتبول بجانب فراشها وتعود بصعوبة الى الفراش،

فجر اليوم التاسع جاء الكلب يحوم من حولها كأنه يطمئن على حالها، حفزها الجوع الشديد للحظة لتنظر الى الكلب نظرات غريبة، في لحظة جنون بدا لها الكلب كأنه فرخة تمثل آخر أمل لها لتطفئ نيران جوعها. فوجئت بالكلب يقف بعيدا منها وينظر لها بخوف قبل ان يستدير عائدا الى الميدان.

مساء اليوم التاسع ماتت الحاجة أم الخير في فراشها، في تلك اللحظة كان الكلب راقدا بجانب قبر سيده يحرسه من هجوم الكلاب الضالة.

 

المصدر: صحيفة الراكوبة

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *