أمّي وجغرافية الجمال

ماجد عرمان

يعلّمنا علم الجمال أنّ إدراك الجمال لا يُستمدّ من العين فحسب، بل من الذاكرة والوجدان. فالجمال كما يقول كانط ليس خاصية في الأشياء، بل حكم يصدره الذوق الحرّ حين يتناغم العقل مع الإحساس. وحين يصبح الجمال تجربة وجودية، ترتبط بالزمن والمكان، وبالإنسان الذي يعاين الأشياء لا بعينه فقط، بل بحنينه وذكرياته.

كانت أمي، رحمها الله، تجسّد هذا الإدراك الفطري للجمال. لم تعرف “علم الجمال” بالقراءة، لكنها عاشته بالحدس والنظر. كانت ترى في التواء سنابل القمح حكمة، وفي تشقق الطين صبرًا، وفي صفير الريح صلاة. كانت ترى القبح بعين الجمال ذاته، لأنها كانت تدرك أن الجمال لا يكتمل إلا بنقيضه. كانت تملك حسًّا يجعلها ترى في بساطة الحياة عمقًا، وفي فقر الطبيعة غنىً روحيًا.

حين جاءت القاهرة، حجبت الأضواء عنها جغرافيتها الأولى، وسُلبت منها تلك المتعة التي كانت تعرفها في أرضها؛ جغرافية جمالٍ من طينٍ وماءٍ وريحٍ ونيل، ومن كنابي الجزيرة التي تمتدّ على مدّ البصر في قريتنا. لم تعد ترى ما يشبهها، كأنها نُزعت من نغمتها الأصلية. كانت معنا في قاهرة المعز في انتظار السفر إلى أمريكا، لكن أحداث الحادي عشر من سبتمبر أخّرت المواعيد وطال الانتظار. ولئلا تملّ الوحدة، كنا نخرج معها إلى اللقاءات الاجتماعية، وأحيانًا كانت تتمشّى مع صديقي وقريبي عمر الحاج، خفيف الظلّ وصاحب النكتة الحاضرة.

وفي إحدى نزهاتهما، حدّثته عن اشتياقها العميق إلى جمال قريتنا “سعيد الحسين”، وحنينها إلى بعض الأماكن وصوت الأذان، لكن عمر، بطبيعته المرحة، كان يحاول أن يواسيها فيقارب المشهد بمظاهر من البيئة المصرية. كانت تبتسم، لكنها تصرّ على أنه لا شيء يشبه جغرافية جمال موطنها. وفجأة قالت له إنها تفتقد وتشتاق الي كنابي الجزيرة وكنابي القرية. ضحك عمر طويلًا، إذ لم يجد في الطبيعة المصرية ما يضاهي تلك الكنابي البسيطة. حاول أن يجد ما يشبهها، غير أنّ المقارنة استعصت عليه، فالجمال الذي كانت تتحدث عنه أمي لم يكن جمال المنظر، بل جمال الانتماء. جمال لا يُرى بالعين، بل يُعاش بالقلب.

ويمتدّ هذا المعنى إلى المجذوب، ذلك الشاعر الذي كان مفعمًا بالمحنة والشوق إلى قريته. كان إذا زار الخرطوم لا يرى فيها سوى الغربة وملامح الأتراك، وكأن المدينة قد سلبته وجه الوطن الحقيقي. ينشد في حنينه:

وافترقنا على حنان نُواسِيهِ

وكان الفراق جدًّا ورفقًا

أنا أهواك يا بلادي

ما واليتُ غربًا ولا تبدّلتُ شرقًا

ما طموحُ الموظفين إلى الجاهِ

طموحي مع المساكين أبقى

آهٍ من قريتي البريئة

لا تعلم كم في مدنيةِ التركِ أشقى

فندقٌ لا جوارَ فيه ولا أرحامَ

تَنهي، ولا معارفَ تبقى

وطواحينُ الدُجى هنالك،

ومصباحي أعمى في صخرةِ الليلِ يَرْقى

ذلك الشوق الذي عبّر عنه المجذوب هو الوجه الآخر لما كانت أمي تحمله في وجدانها: رفض الغربة المادية والروحية، والحنين إلى بساطة المكان الذي يختزن المعنى. كلاهما كان يرى في الأرض الأولى مرآةً للنفس، وفي القرى البعيدة شكلًا من أشكال الخلاص من غربة المدنية وضجيجها.

تذكّرت حينها قصة ميسون بنت بحدل الكلبية، التي أُعجِب بها معاوية بن أبي سفيان فبنى لها قصرًا فخمًا يطل على بساتين الشام، ملأه بالذهب والفضة والديباج، لكنه لم يمنحها وطنها. جلست ميسون ذات يوم وسط الزينة والبخور، تتأمل الزخارف من حولها وتستمع إلى نقر الدفوف، لكنها بكت حنينًا إلى البادية، وأنشدت:

لبيت تخفق الأرواح فيه

أحب إليّ من قصر منيف

ولبس عباءة وتقرّ عيني

أحب اليّ من لبس الشفوف

وأكل كسيرة من كسر بيتي

أحب إليّ من أكل الرغيف

وأصوات الرياح بكل فج

أحب إلى من نقر الدفوف

وكلب ينبح الطراق دوني

أحب إلي من قط أليف

وبكر يتبع الأظعان صعب

أحب الي من بعل زفوف

وخرق من بني عمي نحيف

أحب الي من علج عنوف

خشونة عيشتي في البدو أشهى

إلي نفسي من العيش الطريف

فما أبغي سوى وطني بديلا

وما أبهاه من وطن شريف

كانت ميسون وأمي تنتميان إلى الفطرة ذاتها، إلى فلسفة ترى أن الجميل ليس فيما نملك، بل فيما نكون، وأن بهاء القصر لا يساوي دفء كوخٍ تملؤه الأرواح. كلاهما أدرك أن الزخارف لا تُغني عن الأرض التي منحتنا رائحة الطفولة، وأن الثراء لا يُعوّض غنى الانتماء.

ولعلّ الشاعر الراحل حميد قد لامس هذا المعنى في جوهره الأعمق حين قال:

ياما شايلك فيني حايم

لا الليالي المخملية

لا العمارات السوامق

لا الأسامي الأجنبية

تمحي من عيني ملامحك

لقد علّمتني أمي أن الجمال الحقيقي ليس في الترف، بل في الصدق؛ ليس في الزينة، بل في التوحّد مع المكان؛ ليس في وفرة الأشياء، بل في بساطتها. كانت تعرف، من غير أن تقول، أن الجمال لا يُدرَك بالحواس، بل يُستعاد بالحنين. وربما كانت تدرك، بحدسها الأمومي، ما قاله هيغل ذات يوم: إن التناقضات هي التي تلد الحقيقة، وإنّ الجمال لا يصفو إلا بعد صراعٍ مع القبح، كما لا تكتمل الروح إلا بعد أن تمرّ بآلامها.

في صوتها حين تتحدث عن قريتنا، كنت أسمع لغة الأرض، وفي عينيها حين تذكر الكنابي، كنت أرى علم الجمال في أنقى صوره: جمال الفقد، وجمال الحنين، وجمال البساطة التي تغلب المدن، لأنها أكثر صدقًا من الزخارف.

إنّ ما تبقّى في الذاكرة ليس القصر ولا البساتين ولا القاهرة، بل ظلّ المكان الأول، حين كانت أمي ترى في كل شيء جمالًا، حتى في الشقوق التي تصنعها الشمس على الجدران. هناك فقط، عند التقاء الطين بالنيل، فهمت أن الجمال ليس مرئيًا فقط، بل هو أثر الأمهات في جغرافية الروح.

حين يتوحّد الحنين بالوجود، وتصبح الذاكرة مرآة الجمال الحقيقي الذي لا يبهت مهما تغيّر المكان.

المصدر: صحيفة التغيير

شاركها.