أكذوبة التحول الديمقراطي في السودان !
الكمالي كمال
أظن أنني اكتب هذه السطور مستبدة بي العاطفة الوطنية والتي قد تخرجني من دائرة قراءة الواقع مرة أو أخرى ، وربما تزداد شحنة العاطفة عندما أجد نفسي عاجر في تقديم شئ ما وفي وسط هذا الركام والدمار والأخبار الفاجعة والصادمة في صباح أو نهار كل يوم .
أكتب بعاطفة ربما لما أفرزته الحرب والسيول والفياضانات من مآسي إنسانية يصعب وصفها ولما رأيت بأم عيني في آخر نزلة لي في الشهور الماضية من ظروف قاهرة ومن وضع إنساني أقل ما تقول عليه أنه كارثي .
وبعد أن أجهضت كل المبادرات بالممانعة و(ركوب الراس) وفي وهم الإنتصار الساحق الذي تكذبه كل معطيات الواقع ودخلنا فترة يمكن أن يُقال عليها (التيه السياسي) وتجريب المجرب وإعادة إنتاج الحلول العقيمة التي تعقد المشهد وتعرقل عملية السلام في السودان وتسعى لعسكرة الحلول السياسية (المعسكرة) أصلا بفعل سياسات الإنقاذ التي لم تنجح لها أي مبادرة سلام طيلة العقود التي قضتها في السلطة .
ورغم المشغوليات وغابة الهموم التي أدخلها كل يوم غصبا عني وقسرا لي منذ بداية هذه الحرب وما خلفته تدور في خلدي كثير من الأسئلة وإن كنت مدرك لأسباب هذه الحرب العبثية والحروب الأهلية في كل أقاليم السودان منذ إستيلاء الإسلامين على السلطة .
متى يقتنع العسكريين وإن إختلفت توجهاتهم السياسية وطموحاتهم الشخصية في السلطة بعدم جدوى الحلول العسكرية والأمنية في حروب المدن أو حروب العصابات غير الدمار والخراب ؟ ومتى يقتنع الساسة السودانيين من أن دخول الجيش في السياسة كان خطأ فادج يحب الأعتراف به والإبتعاد عنه ؟ .
ماذا تفهم من اللقاءات والإتفاقيات في إطار الحراك المدني من بعض القوى المدنية التي تسعى في إطار ما يسمى بالجبهات العريضة أنها بطريقة أو بأخرى (تُعسْكر) عملية السلام وتشجع بعودة السلاح إلى طاولة السياسة السودانية بعد كل التجارب الفاشلة مع كل هذا الكم الهائل من الحركات المسلحة ؟ .
متى يقتنع المدنيين من أن إكذوبة التحول المدني الديمقراطية (وهم) واكبر (إكذوبة) في تاريخ الحياة السياسية السودانية وإن نجحت في تسعة دول تفخر بها المؤسسة الدولية للديمقراطية والإنتخابات ، لا يعني أنها سوف تنجح في بلدان أخرى ولأسباب وظروف موضوعية كالحالة السودانية ؟ .
قلنا عن عملية التحول المدني الديمقراطي وهم وأكذوبة لأن الواقع يقول بذلك وأن كل الدكتاتوريات التي حكمت السودان سقطت بثورات شعبية ولم يوافينا التاريخ السياسي عن نظام دكتاتوري سوداني كان جاد في هذه العملية افضت في نهاياتها بتداول سلمي للسلطة ، بل كانت إكذوبة التحول الديمقراطي السبب في هدم جسور الثقة بين القوى السياسية السودانية وكانت السبب في خطابات التخوين والإقصاء .
إن كان هناك إعادة تقييم في تجربتنا الأخيرة مع العسكريين كان لابد لنا أن نعترف حينها من أن الشراكة مع العسكر واللهث وراء التحول المدني الديمقراطي أكبر خطأ فادح إرتكبته القوى السياسية السودانية بحق ثورة ديسمبر المجيدة .
ماذا نفهم من القوى المدينة التي تسعي لإيقاف الحرب أن توقع إعلاناً مع حركات مسلحة على رأس مطالبها (علمانية الدولة) أو فصل الدين عن السياسة ؟ ألم يوحي ذلك من أنها فعلاً حركات مسلحة لا علاقة لها بالعمل السياسي المدني ؟ ألم تعي هذه الحركات المسلحة من أن الأيدلوجية السياسية للدولة علمانية أو مدنية أو دينية سوف تحدد في إستفتاء شعبي عند إجازة الدستور الدائم.
ما الدروس المستفادة من تاريخ العلاقة بين القوى المدنية السياسية والحركات المسلحة على إختلاف أسباب نشؤها ؟ ألم يوحي أننا أمام تحالفات مدنية/ مسلحة حتماً سوف تفضي إلى عسكرة الدولة وليس مدنيتها ؟ .
أم اننا فعلاً في فترة التيه والعقم السياسي الذي لا ينتج لنا سوى اللامعقول واللامنطقي والمستحيل ؟ إلى متى ونحن في (افيون) الأخبار الكاذبة التي تقول أن الإتحاد الأوروبي أو الولايات المتحدة قد فرضت عقوبات على طرفي الحرب ؟ متي نكف عن الغزل السياسي والشعر السياسي والعاطفة السياسية ونرتقي إلى مستوى تحديات المرحلة ونبتعد من تدويل القضية السودانية ؟ ألم تكن التجارب التي حولنا وقضت أعوام من تدويل قضاياها كالسورية واليمنية والليبية وغيرها إنتهت باللادولة واللامدنية والفوضى الشاملة ؟ .
ليس تبخيس من أي جهد أنفق أو يبذل في إيقاف هذه الحرب اللعينة وما دمرته الحرب وما أفرزته من واقع إنساني مرير يتداعى له العدو قبل الصديق ، ولكننا اصبحنا نبحث عن الحد الأدنى من الوفاق المدني الوطني الذي يقضي وقته في كتابه مقترح الدستور الدائم ويعمل جاهداً من تقليل أخطاءه في الفترة الإنتقالية والتي لا محال منها وإن تطاولت طموحات العسكر وصراعاتهم من اجل السلطة .
نبحث عن الحد الأدنى من الوفاق المدني الوطني الذي يوقف هذه الحرب الإنتحارية لشبعنا ولمواطنينا فالسياسة فن الممكن وفن إدارة الشؤون العامة وفن بناء التحالفات وفن التقدير في إدارة الأزمات ، وليست فن الإقصاء وخطابات التخوين التي لا تحسب أي حساب لخارطة التوازنات السياسية .
[email protected]
المصدر: صحيفة الراكوبة