اخبار السودان

أكاذيب إدارة الفوضى.. ورطة طرفي الحرب

د. أحمد عثمان عمر المحامي

د. أحمد عثمان عمر

(١)
يحزن جميع المواطنين لما يحدث في مصفاة الجيلي للبترول، إحدى منشآت البنية التحتية المهمة، التي بالرغم من تكلفتها المبالغ فيها والفساد الذي يقال عن تنفيذها والتشكيك في فعاليتها المستقبلية، تظل منشأة أساسية في عملية تعدين البترول وتوفير احتياجات الطاقة. فتدميرها أو حرقها من قبل المليشيا الإرهابية كما يدعي الجيش المختطف، أو من قبل ذلك الجيش كما تدعي المليشيا في إطار حرب البيانات التضليلية بين الطرفين، خسارة محضة للمواطن المغلوب على أمره ودلالة على أن الحرب قد دخلت مرحلة إدارة الفوضى باتجاه التدمير الشامل وتخطي مرحلة الفوضى غير الخلاقة، التي اقتصرت على عشوائية الحرب والانسحابات المتبادلة. فبالرغم من اتساق رواية الجيش المختطف مع توجه المليشيا الإرهابية مؤخرا باستهداف البنية التحتية للشعب مثل قصف سد مروي و محول كهرباء دنقلا وما إلى ذلك ، إلا أن هذه الرواية يضعفها أن البنية التحتية التي تقصفها المليشيا الإرهابية تقع دائما تحت سيطرة الجيش المختطف في حين أن المصفاة تسيطر عليها هذه المليشيا المجرمة وتحتاج إليها. كذلك رواية المليشيا الإرهابية حول أن الجيش المختطف هو من قصف المصفاة بالبراميل المتفجرة، تتسق مع سلوك الجيش المختطف الممنهج في قصف البني التحتية مثل كبري شمبات وكبري خزان جبل أولياء وأماكن أخرى، ويضعفها أن الجيش المختطف يحرز تقدماً بطيئا تجاه استعادة المصفاة.
(٢)
سلوك طرفي الحرب التدميري الشامل، المستهدف للبنية التحتية، يعكس تجاوز الحرب لمرحلة الفوضى الناتجة عن عجز متبادل عن الحسم عبر انتصار عسكري في حرب تقليدية، إلى محاولة واضحة لإدارة هذه الفوضى بهدف الوصول إلى الحسم مهما كانت التكلفة، طالما أنها على حساب الشعب والمواطن، لا على حساب أي من الطرفين المجرمين. والشاهد على ذلك الاتهام للجيش المختطف بإستخدام أسلحة كيماوية، كانت أحد أسباب فرض العقوبات الأمريكية على قائده غير الشرعي والانقلابي المزمن، وانفلات المليشيا الأرهابية في ضرب منشآت البنية التحتية في مناطق سيطرة الجيش المختطف في شمال البلاد. فاستخدام الأسلحة الكيماوية، يعني تجاوز جميع الخطوط الحمراء بهدف هزيمة المليشيا الأرهابية مهما كان الثمن، حتى وإن كان الدخول في صدام مباشر مع المجتمع الدولي، وضرب البنية التحتية في الشمال من قبل هذه المليشيا يعني رغبتها في جعل الحياة مستحيلة لسكان المناطق تحت سيطرة الجيش المختطف، ومنع الأخير من النجاح النسبي في إدارة فوضاه. فالانتقال إلى هذه الوسائل القذرة بشكل كلي، يؤكد ان التوازن هو توازن ضعف لا قوة، وأن الطرفين عاجزين عن إدارة فوضى الحرب التي خلقاها، ومحاولتهما استعادة السيطرة عبر الحسم بأية وسيلة من الوسائل مهما كانت قذارتها وضررها لشعب السودان، ومردودها السلبي على المواطن ، في مشهد يعكس حقيقة الحرب ، وإلى أي مستوى أن الطرفين أعداء لشعبنا الصامد المنتصر حتماً ، والباقى بعد زوالهما معاً.
هذا السلوك يأتي بكل تأكيد، في إطار نشاط استباقي لإنخراط المجتمع الدولي بشكل أكبر في الصراع السوداني، في إطار التحولات المتوقعة تحت إدارة ترامب الأمريكية الجديدة. فالمليشيا الأرهابية تسعى لتكوين حكومة بواجهة من بعض أطراف “تقدم” في مناطق سيطرتها وربما تستعجل هذا الإجراء، للتفاوض مستقبلا مع حكومة الأمر الواقع غير الشرعية كسلطة في مواجهة سلطة بدلا من التفاوض كمليشيا منبوذة ومحاصرة، والجيش المختطف يرغب في التفاوض مستقبلا كحكومة أمر واقع مسيطرة على عاصمتها القومية مهما كان قبح الأدوات التي سيتم استخدامها.
(٣)
التفاوض كحكومتين متنازعتين في ظن طرفي الحرب، يعطيهما صفة افضل، ويجعلهما طرفا أصيلا في المعادلة السياسية لا فصيلان عسكريان متحاربان فقط، ويحرج المجتمع الدولي ويدفعه للتعامل معهما كقوى سياسية لا كفصائل مسلحة فقط. فهما يعلمان معا أن الولايات المتحدة الأمريكية لن تواصل سياسة الإدارة السابقة تجاه حرب السودان، لأن توجهها سيكون تبريد جميع الجبهات الساخنة عبر تسويات مفروضة بالعصا الغليظة، للتفرغ لصراعها الأساسي مع الصين . وفرض العقوبات على قائد المليشيا الأرهابية ومن بعده قائد الجيش المختطف غير الشرعي ومعه المواطن الاوكراني الذي يمده بالسلاح، مع الضغط الواضح على الدولة الراعية للمليشيا الأرهابية، يعني توجها واضحا لتغيير سياسة التدخل المحسوب لمصلحة التدخل الفاعل، وهو تحول حتما تم بالتشاور مع الرئيس المنتخب وفقا للتقليد الأمريكي ، في نشاط تأكيدي للمحافظة على توازن الضعف. فالمرحلة القادمة ستشهد زيادة الضغط من اجل تفعيل منابر الحوار ، ودورا انشط لمنبر جدة على الأرجح أو على الأقل تفعيل ما تم التوصل إليه من اتفاقات عبره. وبكل تأكيد يعلم طرفا الحرب ومن خلفهما هذه الحقيقة عبر تحليل المشهد السياسي ، وعبر الدبلوماسية الأمنية غير المعلنة والتواصل المباشر، وعبر التفاهمات غير المعلنة مع أطراف في المجتمع الدولي، ستظهر آثارها في إطار فرز جديد وانقسامات بتأثير اعادة ترتيب توازن الضعف تحت ضغط دولي فاعل، وتحول في ساحة الحرب ناتج عن تبادل مواقع الهروب والانسحابات، والانتقال لمرحلة إدارة الفوضى بتحويل الحرب إلى حرب قذرة شاملة، بإستخدام الأسلحة المحرمة دولياً، وتوسيع الاستعانة بالمليشيات الرديفة والمرتزقة.
(٤)
هذا التحول لن يمسح للطرفين بإدارة الفوضى عبر حسم الحرب عسكريا لأن هذا غير ممكن حتى الآن استنادا لتقييم الخبراء العسكريين الحقيقيين ، ولكنه سيحسّن الموقف التفاوضي بكل تأكيد. فتدخل المجتمع الدولي في إطار تقاطع المصالح لن يسمح بالحسم العسكري، لأن ذلك الحسم يعني انتصار دول وهزيمة أخرى تتعارض مصالحها وفقا لموقعها في دعم أطراف الحرب بعد تدويلها. كذلك لأن معسكري الحرب غير مؤهلين عسكريا لحسمها ، كما أنهما غير مستعدين كمعسكرين سياسيين لذلك الحسم، والدلالة على ذلك الوضع العسكري الراهن ومحاولة الطرفين السيطرة على فوضى الحرب بإدارتها بكل الوسائل القذرة. فالمليشيا الأرهابية تعاني من تراجع عسكري واضح ومن الضغوط الدولية على الدولة الكفيلة التي قبلت الوساطة التركية، ومن مشكلات في بنيتها واتهام بالاختراق والخيانة، كما تعاني من فشل مزمن في الإدارة المدنية والتحول لقوى سياسية فاعلة. أما الجيش المختطف، فهو يعاني من المليشيات الرديفة صاحبة المشروع الطموح لاستلام السلطة كاملة في المستقبل (مليشيات دارفور الانتهازية المشاركة في السلطة)، وأخرى متطرفة ترغب في اعادة سلطة تمكين الحركة الإسلامية المجرمة كاملة، بالإضافة إلى الصراع المكتوم بين الحركة الإسلامية المجرمة وواجهتها التي تحكم من الجنرالات، فوق صراع الجنرالات انفسهم الذي لم يعد خافيا على احد. والواضح ان كل ذلك يأتي في إطار تغييب الشعب السوداني عن معادلة الحرب والسلم، وطرده من ساحة تقرير مصيره السياسي ووضع خارطته السياسية التي يسعى طرفا الحرب لتجريفها والانفراد بها. ولا يفوتنا في هذا الإطار المحاولة الساذجة لسلطة الأمر الواقع التي دفعت ابن إمام الانصار السابق وهو احد منسوبيها ويقاتل معها لتقديم خطاب يرسم خارطة سياسية جديدة، مكونة من سلطة الإسلاميين الحالية وحزبي الأمة والاتحادي الأصل، تتفضل باستصحاب الحزب الشيوعي لاستكمال الصورة مع أقصائه فعلياً ، وتطرد بقية القوى السياسية من المشهد السياسي. ولسنا في حاجة للقول بأن هذه الهندسة الكاريكاتورية لن تنجح ، وأن محاولة إدارة الفوضى ستفشل، وأن شعبنا حتما سينتصر .
وقوموا إلى ثورتكم يرحمكم الله!!!

مداميك

المصدر: صحيفة الراكوبة

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *