أضواء على الوساطات الجارية: إيجابياتها… عيوبها والطريق لنجاحها
عبد الرحمن الغالي
(1)
أصبح علم فض النزاعات علماً راسخاً بمبادئ وأصول معروفة مستمدة من تطور علوم القانون الدولي والعلاقات الدولية. تشكّل المواثيق والاتفاقات الدولية والسوابق والأعراف لبنات مهمة في هذا العلم.
وحسب ميثاق الأمم المتحدة ( المادة 33) فإن طرق تسوية النزاعات سلمياً تشمل نوعين : الطرق السياسية والدبلوماسية والطرق القضائية.
تشمل الطرق السياسية التفاوض المباشر بين أطراف النزاع كما تشمل المساعي الحميدة ، وفي كلا النوعين لا يتدخل طرف ثالث في حل النزاع وإنما تسعي المساعي الحميدة لإقناع أطراف النزاع بالجلوس المباشر لتسوية النزاع. كما تشمل الطرق السياسية دخول طرف ثالث ليس له علاقة بالنزاع في قضايا النزاع ومن أنواعها : الوساطة والتوفيق والتحقيق.
أما النوع الثاني من الطرق السلمية غير القضائية فهي الطرق الدبلوماسية حيث يتم حل النزاع بواسطة المنظمات الدولية والاقليمية.
(2)
الوساطة:
وبحسب تعريف الأمم المتحدة فإن الوساطة هي العملية التي يساعد بموجبها طرف ثالث طرفين أو أكثر وبموافقتهم في وقف أو إدارة أو حل نزاع وذلك بمساعدتهم للتوصل معاً لاتفاقات مقبولة. و هي عملية طوعية تكون موافقة الأطراف فيها أساسية حتى تكون العملية قابلة للحياة وذات نتائج ودائمة.
ومن خلال نصوص دليل الأمم المتحدة للوساطة الفعالة يمكن ذكر النقاط التالية حول شروط الوساطة:
1. قبول الأطراف بها.
2. حيادية الوسيط ( عدم انحيازه) وهي مهمة وأساسية ولا تكفي حيادية الوسيط حتى تعترف أطراف الوساطة وتقتنع بحياديته. وألّا تكون للوسيط مصالح مادية ملموسة.
3. شمول عملية الوساطة
4. التحضير الجيد
5. الملكية القومية (الوطنية).
6. مراعاة القانون الدولي والأعراف الدولية.
ومن أهم النقاط التي ذكرها دليل دليل الأمم المتحدة في مسألة الحياد: ضرورة تجنب الارتباط بالاجراءات العقابية ضد الأطراف المتنازعة بواسطة فاعلين آخرين وتقليل النقد العلني للأطراف بأقصى ما يستطاع.
أما المساعي الحميدة فتختلف عن الوساطة إذ تقتصر على جمع الطرفين دون الدخول في تفاصيل قضايا النزاع ، بينما يقوم التيسير بتسهيل وصول الأطراف لنقاط التقاء. والمعروف أن الوساطة نفسها لا تفرض مقترحاتها ومن باب أولى ألا يفعل ذلك الميسرون والمسهلون.
أما فرض العقوبات فلا يمكن أن يقوم به من يقوم بالتيسير أثناء فض النزاع.
ومن خلال هذه الشروط يمكن محاكمة أية وساطة أو عملية مساعي حميدة أو تيسير ، وتبيين مواضع الخلل فيها
(3)
الوساطة الافريقية: الاتحاد الافريقي ووساطة الايقاد:
• بعد انقلاب 25 أكتوبر 2021 علّق الاتحاد الافريقي عضوية السودان.
• وعندما اندلعت الحرب أعلنت منظمة الايقاد في 17/4/2023 تكوين وفد عالي المستوى لعملية السلام في السودان برئاسة سلفا كير رئيس جنوب السودان.
• وبعد فترة قدم الاتحاد الافريقي خريطة طريق من ست نقاط تبناها مجلس السلم والأمن في الاتحاد الافريقي في 31/5/2023. كانت النقاط الست مقبولة من الناحية الموضوعية ولكن من الناحية الاجرائية كان تغييب السودان متنافياً مع مهمة الوساطة التي تتطلب التعاطي مع الأطراف المتنازعة والحصول على موافقتها من ناحية، ومتنافياً مع الأعراف الدولية من ناحية أخرى. فمن المعلوم أن المنظمات الاقليمية ( الاتحاد الافريقي والايقاد) تقوم على الدول وإرادتها المستقلة، فإذا كان النظام الدولي يخلو من سلطة دولية واحدة كما يقول علماء العلاقات الدولية ويقوم على الدولة كوحدة فاعلة، وإذا كان النظام الدولي والأمم المتحدة لم يحرم السودان حقه في مخاطبة العالم بوجهة نظره في الحرب الدائرة على أرضه، فكيف يستقيم حرمانه من ذلك الحق في الاتحاد الافريقي؟.
كانت النقاط الست كما أسلفت موضوعية حيث أكدت على سيادة وسلامة ووحدة أراضي السودان واستقلاليته وعلى الدور الاستراتيجي لدول جوار السودان وعلى ضرورة استئناف عملية سياسية شاملة.
• وفي 12/6/2023 انعقدت قمة الايقاد في جيبوتي والتي ظهر فيها صراع الأجندة، فمن ناحية مثّل حضور مالك عقار وترؤسه للجلسة الافتتاحية اعترافاً بشرعية البرهان كرئيس لمجلس السيادة إذ قُدّم عقار بصفته نائباً لرئيس مجلس السيادة. ومن ناحية أخرى تم في تلك القمة تغيير تركيبة ورئاسة الوفد رفيع المستوى الذي كان يرأسه سلفا كير فقد أضافت القمة اثيوبيا كعضو رابع وأُسندت الرئاسة للرئيس الكيني وليم روتو. وقدمت خارطة طريق جديدة لحل الأزمة واقترحت خطوات منها لقاء بين البرهان بصفته رئيس مجلس السيادة والجنرال وحميدتي (بدون اطلاق أية صفة عليه) وفتح ممرات إنسانية واطلاق عملية سياسية شاملة.
• وبعد ثلاثة أيام وفي 15/6/2023 أيّد مجلس السلم والأمن خارطة طريق الايقاد وأضاف إليها بنداً في غاية الخطورة وهو إخلاء الخرطوم من السلاح والوجود العسكري ( النقطة 27 من بيان مجلس السلم والأمن المنعقد في 15 يونيو) في خطوة أحادية دون التشاور مع أطراف النزاع. هذه الخطوة تعني نقل أسلحة الجيش الكبرى : القيادة العامة ومركز التحكم وسلاح المدرعات ومصنع الذخيرة الخ إلى خارج العاصمة الأمر الذي لايتوقع قبوله من الناحية العسكرية البحتة دعك من الناحية السيادية.
• ثم جاءت قمة الايقاد وبيان اللجنة الرباعية ليطلق رصاصة الرحمة على قبول وساطة الايقاد وذلك لعدة عوامل:
1) قررت الايقاد استمرار رئاسة الرئيس الكيني وليم روتو دون أن تكلف الايقاد نفسها بالرد على طلب السودان بتغييره أو الرد على الاتهامات الموجهة إليه. مثل هذا التجاهل خاطئ إجرائياً وقاتل للعملية سياسياً إذ يتعامل مع السودان كدولة فاقدة للسيادة أو كحكومة معترف بها وخاضعة بالكلية للايقاد.
2) وثانية الأثافي كانت قرار القمة الاستعداد لنشر قوات افريقية دون حتى مجرد التشاور مع السودان أو مع طرفي الصراع على أقل تقدير إذا لم تعترف بوجود سلطة في السودان. وهذه الخطوة أيضاً تسعي لفرض السلام وحل النزاع عسكرياً وليس سلمياً مما ينذر بجر المنطقة لحرب اضافية بدل محاصرة الحرب الدائرة.
3) وكانت ثالثة الاثافي التي زادت الطين بلة هي تصريحات الرئيس الكيني بأن بالسودان فراغ قيادي في إشارة لعدم الاعتراف بمجلس السيادة رغم ترؤس عقار للقمة بجيبوتي، وكذلك تصريحات أبي أحمد الذي طالب بفرض منطقة حظر طيران ونزع المدفعية الثقيلة رغم أنه كان يرفض مجرد الوساطة في حربه مع التقراي باعتبارها شأناً داخلياً وأصر على الحسم العسكري.
4) وصاحبت قمة الايقاد لقاءات ثنائية مع فصيل واحد من القوى السياسية يمثل مجموعة معينة بعضها ينتمي للحرية والتغيير وبعضها مسؤولون سابقون ( مثل د. عبد الله حمدوك رئيس الوزراء السابق والوزير السابق نصر الدين عبد الباري وعضو مجلس السيادة السابق محمد حسن التعايشي) وكلهم يجمعهم تأييدهم للاتفاق الاطاري. تأتي هذه الخطوة في تناقض مع خريطة طريق الايقاد والاتحاد الافريقي الداعية لحل سياسي شامل.
الشاهد أن الوساطة الافريقية بشقيها بدأت بأخطاء محددة منها رفضها التعاطي مع قيادة الأمر الواقع في السودان والتي هي طرف في الصراع، ثم تدرجت لفرض إجراءات تمس السيادة لا يمكن أن تقبلها حكومة الأمر الواقع ثم فرض رئاسة كينيا دون حتى مجرد الرد سلباً أو إيجاباً على طلب دولة عضوة ( بل صاحبة المبادرة بتكوين الايقاد نفسها) ثم الحديث عن وجود فراغ وغياب حكومة معترف بها ثم إقرار التدخل العسكري والمطالبة بنزع سلاح الجيش وفرض حظر طيران. وكل هذا تصعيد متسارع غير مبرر لا يُفشل الوساطة فقط ولا يجردها بمقاييس العلاقات الدولية من أية معايير لفض النزاع سلمياً فحسب وإنما يدخل ذلك في دائرة الأعمال العدائية وإعلان الحرب.
فإذا ربطنا ذلك بالحديث المتواتر الدائر عن الاتجاه لإعلان حكومة طوارئ في المنفى ( على سبيل المثال فقد كان سؤال الورشة التي عقدها معهد ماكس بلانك مع جامعة القديس يوسف في بيروت ( 1012 يوليو 2023 ) حول حوكمة الطوارئ هل يمكن تكوين حكومة طوارئ في السودان ؟ وقد دعت لها طيفاً من المشاركين السودانيين) أقول إذا ربطنا ذلك فسندرك أن هذه الوساطة قد فقدت على الأقل ثقة أحد الأطراف تماماً وبالتالي فقدت كل فرصة حقيقية لها في الحل السلمي للنزاع . ولكن هذا لا يعني فشلها في فرض الحل الذي تراه، فقد فرضت الايقاد في السابق حلاً انفصل بموجبه جنوب السودان بعد أن ركّعت مستعينة بأصدقائها الدوليين الذين تحولوا لشركاء الايقاد وقام منبرهم من وراء ستار بفرض اتفاقية نيفاشا على حكومة الانقاذ المعزولة سياسياً والعارية عن السند الشعبي فدفع الشعب السوداني ثمن انحياز الوسيط وعزلة المفاوض..
أما سبل اصلاح الايقاد إذا كان لها أن تسعيد دورها فذلك موضوع الحلقة القادمة إن شاء الله التي سنواصل فيها أيضاً إلقاء الضوء على ( التسيير= الوساطة) السعودية الامريكية ومنبر دول جوار السودان والمطلوب من القوى السياسية السودانية لتفويت الفرصة على فرض الأجندة الأجنبية التي لن يكون فيها كاسب سوداني.
المصدر: صحيفة التغيير