أسطورة النحل ادم اسمث وبرنارد ماندفيل وديمقراطية السودانيين
طاهر عمر
في هذا المقال محاولة لفك إشتباك كل من برنارد ماندفيل وادم اسمث وديفيد هيوم وهوبز. أفكار برنارد ماندفيل تكمن في دراسة ظاهرة الرزائل الكامنة في المعادلات السلوكية للفرد ويقول أن وراءها تحقيق مصالحه كفرد كالبخل والطمع وغيرها من الرزائل لذلك كانت الكنيسة ترى في نقدها لأفكار ماندفيل أنه لا أخلاقي ويجب قمع أفكاره لأنها تروج لفكر غير أخلاقي.
ماندفيل يرى أن ظاهرة المجتمع البشري ليس وراءها أي مهندس معماري بل لا تشبه إلا بناء النحل لخليته بشكل غريزي بل لا يوجد أي مهندس وراء ذلك البناء والإبداع المعماري جاءت أفكاره في كتابه أسطورة النحل وكانت تعتبر طفرة كبيرة في الفكر وحتى يبرهن على صحتها كان متكئ على أفكار هوبز وأفكاره بأن الإنسان عدو الإنسان ولا يعرف غير أن تسود بينه والآخر حرب الكل ضد الكل ولذلك جاء عقده الإجتماعي الذي لا يفتح إلا على نظام شمولي بغيض لذلك رفض عقد هوبز من بين السرديات الكبرى لأنه يشبه ماركسية ماركس ولا يفتحان إلا على نظم شمولية بغيضة.
لكن كان هناك إهتمام من الفلاسفة وعلماء الإجتماع لإمكانية إصلاح عقد هوبز ونجده في جهود توكفيل في أن عقد هوبز لا تقوم له قائمة إلا إذا أدخلت عليه فكرة الدولة وتدخلها في إمكانية إنزال فكرة المسؤولية الإجتماعية نحو الفرد وفي نفس الوقت نجد أن ادم اسمث كان مهتم جدا بفكرة ماندفيل ووصفه بأنه قد صادف فكره أن يكون له إستشراف لظاهرة المجتمع البشري وهذا ليس بغريب عن أدم اسمث إذاما نظرنا لفكره في فكرة اليد الخفية وأن مصلحة الفرد لا تتضارب مع تحقيق المصلحة العامة للمجتمع.
لكن ادم اسمث ينطلق من منطلق مجد العقلانية وإبداع العقل البشري عكس ماندفيل و هو ينطلق من أن الإنسان تكمن خلف منطلقاته غريزة لا تحاددها أي عقلانية أما ادم اسمث يؤكد في كتابه نظرية المشاعر الأخلاقية أن الإنسان عقلاني وأخلاقي على أقل تقدير يتعاطف مع الضحايا وهذا دليل قاطع على النزعة الإنسانية وكيف يسير الإنسان بإتجاه تأسيس مجتمع تتحقق في أنحاءه العدالة والحرية.
طبعا ادم اسمث كان متأثر بأفكار ديفيد هيوم في فكرة القانون الطبيعي الكامن في معادلات الفرد السلوكية وأفكار ديفيد هيوم وكذلك أفكار ادم اسمث قد أثرتا في فكر عمانويل كانط وقال كانط بعد أن إطلع على فلسفة هيوم وأفكار اسمث قال مقولته المشهورة أي أن أفكار ديفيد هيوم هي التي قد أيقظتني من ثباتي الدوغمائي العميق.
وبالمناسبة عمانويل كانط قبل تأثره بفلسفة ديفيد هيوم وكذلك بأفكار ادم اسمث في نظرية المشاعر الأخلاقية كان أقرب للأصولي المتزمت حاله كحال النخب السودانية الآن وهي تبحث في الموافقة بين الحداثة والأصالة أو المؤالفة بين العلمانية والدين وغيرها من أفكار النخب السودانية اللاهوتية التي تبحث عن الأصالة والأصيل وتلفيق النخب السودانية الظاهر في علمانية محمد ابراهيم نقد المحابية للأديان.
فأفكار ديفيد هيوم وادم اسمث هي التي جعلت عمانويل كانط ينتبه الى أن يفصل حقلي الميتا عن الفيزيقيا وويفصل بين حقلي الايمان والعلم فهما حقلان مختلفان تماما وبالتالي يصبح عند كانط أن الدين شأن فردي بين الفرد وربه دون أن يتدخل بينه وربه تجار الدين أما صراع الفرد مع مجتمعه فتحكمه معادلة الحرية والعدالة وهي فعل إجتماعي بحت لا يحتاج المجتمع فيه لأوامر من خارجه أي لا يحتاج أن يؤمر بشريعة دينية من خارجه بل هو فعل إنساني بعيدا جدا عن فكرة الإرادة الإلهية.
وهذا هو البعد والأفق الذي لم تفهمه النخب السودانية حتى اليوم بل أغلب النخب السودانية مؤمنة بأن المجتمع يحتاج لأوامر تأتي من خارجه كالشريعة الإسلامية وعاجزين عن فهم أن ظاهرة المجتمع البشري فعل إجتماعي بحت من داخل المجتمع يستنبط العقلانية والأخلاق من تفاعله كمجتمع بشري ولا يحتاج لشريعة تأمره من خارجه ويتضح هذا الفهم لكل من يفهم فكرة القانون الطبيعي لديفيد هيوم أو أنثروبولوجيا عمانويل كانط أو أنثروبولوجيا الليبرالية لكانط وعبره تصبح أفكار الليبرالية بديل للفكر الديني.
وهنا وجب أن نوضح بأن فك الإشتباك بين هؤلاء الفلاسفة هو أن هوبز وبرنارد ماندفيل قد وقفت أفكارهما ولم تزدهر وعكسهما ديفيد هيوم وادم اسمث في حديثما عن النزعة الإنسانية وعقلانية الإنسان وأخلاقة قد إزدهرت أفكارهما وتواصلت في أفكار كانط وحتى يومنا هذا في أفكار النيوكانطية التي قد قضت على أفكار ماركس وماركسيته.
وهنا كذلك قد وجب تحديد لماذا فشل ماركس في مقارباته لنظرية القيمة لديفيد ريكاردو وخرج بفكرة مضحكة وهي فكرة فائض القيمة؟ وبالتالي فشل ماركس في أن يجسر الفلسفة المثالية الالمانية بالتجريبية الإنجليزية في وقت نجح كانط في جسر المثالية الإلمانية مع التجريبية الإنجليزية بعد إطلاعه على أفكار ديفيد هيوم وأدم اسمث. يجب ألا ننسى أن ادم اسمث في أدبياته الإقتصادية قد فك إرتباط علم الإقتصاد من كل من الفلسفة والدين قبل قرنيين ونصف في وقت ما زالت النخب السودانية مقيدة بفكرة الرباء.
وأيضا نجد أن كالفن قبل ادم اسمث قد تحدى تراث يهودي مسيحي متراكم على مدى ثلاثة ألف سنة عن الرباء وأصبح الأب الشرعي لفكرة سعر الفائدة والنخب السودانية ما زالت تخاف من تهديد الكيزان لبقية النخب السودانية عن فكرة الرباء بل رأينا كيف عجز حمدوك في أن يلغي ديوان الزكاة ويصادر أمواله عن طريق وزارة المالية مثلما فشل حمدوك في بسط سلطة وزارة المالية على شركات الجيش.
وبعد كل هذا الكساد الفكري ما زال الكل يتحدث عن تحول ديمقراطي نقولها لكم واضحة أن التحول الديمقراطي لا يمكن أن يكون إلا إذا أقتنع الكل أن الديمقراطية هي بديل للفكر الديني وأن الديمقراطية تعني فصل الدين عن الدولة وأن في فلسفة الديمقراطية ليس هناك مكان شاغر لوزارة الشؤون الدينية لكي تفرخ لنا أتباع أحزاب المرشد والامام والختم.
قد يخطر ببال القارئ ما علاقة كل هذا بالمجتمع السوداني وهو له تاريخه الخاص به وليس له علاقة بتاريخ أوروبا وفلاسفتها كما يروج كثر من النخب الفاشلة في السودان والإجابة ببساطة شديدة هي أن ظاهرة المجتمع البشري تخص البشرية كافة وليس فيها صفحة لتاريخ خاص بمجموعة دون أخرى وخاصة أن تاريخ الإنسانية قد أصبح تاريخ واحد ومشترك بين كافة بني البشر بعد الثورة الصناعية.
والآن في ظل الحرب العبثية نرى روح عقد هوبز في السودان أي حرب الكل ضد الكل لأن النخب السودانية لم تدرك بعد أن الخروج من حرب الكل ضد الكل لا يكون بغير طرح الأفكار التي طرحها الفلاسفة وعلماء الإجتماع لإصلاح عقد هوبز كما فعل توكفيل مثلا.
وقد وضّح توكفيل أن الفكر الليبرالي لا يتحدث عن نظم الحكم فحسب بل يجسد فلسفة قادرة على تجسيد المساواة والعدالة بين أفراد المجتمع وقد عجز عن تحقيقهما الفكر الديني عبر تاريخ البشرية الطويل فالدين قد زال سحره ولم يعد كجالب لسلام العالم كما يقول ماكس فيبر وهو مفتخر بأن الحضارة الغربية قد حققت ما عجزت عنه الحضارات التقليدية وقطعا الحضارة الإسلامية العربية التقليدية من ضمن الحضارات التقليدية.
لكن فليطمئن القارئ أن مسألة أن تلحق الحضارات التقليدية والحضارة الإسلامية التقليدية من ضمنها بالحضارة الغربية مسألة وقت لا غير وخاصة قد أصبحت الأحداث متسارعة لدرجة عجيبة لذلك من الأفضل أن يكون هناك دور للنخب السودانية وجهد واعي لمغادرة أفكار الحضارة الإسلامية التقليدية وهذا ليس بالأمر الساهل بل يحتاج لفكر عباقرة الرجال وهم من يتخلصون من ركام سحب تاريخ الخوف الناتج من عقل لاهوت القرون الوسطى السائد في السودان ومن علاماته عدم القدرة على إنتاج فلسفة سياسية ترسخ وتجسد المساواة والعدالة بين أفراد المجتمع وقطعا لا يمكن تحقيقها في ظل خطاب ديني متحجّر يعكس روح الكيزان كآخر سحب القرون الوسطى.
وتبقى مسألة القطيعة مع التراث الديني المؤدلج في سودان مسألة في غاية الصعوبة كما يقول عالم الإجتماع التونسي الطاهر لبيب لأن فكرة القطيعة مع التراث الديني المؤدلج كما يقول الطاهر لبيب نادرة وسط النخب العربية والإسلامية التقليدية وهي وحدها من تخلصنا من الخطاب الديني المنغلق سواء كان خطاب الكيزان أو المتواطؤون مع الكيزان وغيرهم من أتباع الفكر الديني من كل شاكلة ولون.
لأن مشكلة النخب السودانية معقدة عندما تحاول مقاربتها من جهة الخطاب الديني فهناك جيوب كثيرة للخطاب الديني المؤدلج في السودان ولا ترى فكاك من الخطاب الديني مثلما يبحث كثر عن فكرة الأصالة وفكرة الأصيل وكلها أفكار تسد بيننا وبين فكرة النزعة الإنسانية التي أسس لها الإنسانيون الكبار منذ القرن السادس عشر وهو قرن الإنسانيين بلا منازع.
وعلى ذكر الإنسانيين الكبار لا يفوتنا الحديث عن ميشيل دي مونتين ويفتخر به عمانويل كانط بأنه معلمه الأكبر وعلى أثر عمانويل كانط أفتخر أيضا كلود ليفي أشتروس بكل من عمانويل كانط وميشيل دي مونتين وفضلهما على فتوحاته الفكرية وكلود ليفي الإشتروس يرى أن الحضارات متساوية في محاولاتها لشرح ظاهرة المجتمع البشري أي أن معنى فكره لا فرق بين الإسلام والكجور ويوم يفهم المثقف التقليدي السوداني أن لا فرق بين الإسلام والكجور يصبح أن لا داعي لإرسال منظمة الدعوة الإسلامية لجبال النوبة لتدمير ثقافة الكجور ولغات أهل جبال النوبة فهي كنوز إنسانية يجب المحافظة عليها.
[email protected]
المصدر: صحيفة الراكوبة