منعم سليمان

تصفّحتُ مساء أمس أخبار وكالة السودان للأنباء (سونا)، تلك التي ما عادت تُخبر، بل تهمس بأضغاث أحلام، وتكتب التهيؤات والأكاذيب بركاكةٍ مريعة، فهالني خبران تصدّرا صفحتها؛ لا يثيران الدهشة قدر ما يستدعيان الضحك والبكاء معًا، لا من فرط المفارقة، بل من هول ما آل إليه حالهم، وحال السودان!

بينما نار الحرب تلتهم البلاد وتنهش لحمها الحي، والمجاعة تقضم البطون الخاوية، والمرض يجري في العروق كما تجري الهزائم في خرائط الحرب، وحيث ثلث الشعب قد هُجّروا من ديارهم، مشرّدين بين معسكرات النزوح ومهاجر التيه ..

وفي وطنٍ انهار اقتصاده، وتدهورت عملته حدّ الكارثة بفعل فساد العسكر وحرب كيزانهم، وتلاشت فيه كل معالم الحياة؛ لا طعام يسدّ الرمق، لا ماءٌ يروي، لا دواء يُشفي، لا كهرباء تُنير، ولا أمنٌ يردع البغي والقتل والسلب!

وسط كلّ هذا الجحيم، تطالعنا وكالة الأنباء السودانية الرسمية بما يُشي بأن من يعتلون كراسي السلطة في بورتسودان قد انفصلوا عن الواقع، ويتصرفون وكأنهم يعيشون في كوكبٍ قمريٍّ لا تدبّ فيه الفجيعة!

*الخبر الأول*: يتحدث عن لقاءٍ جمع بين رئيس سلطة البرهان، ودُميته *كميل إدريس*، مع وفدٍ من “هيئة الرقابة النووية والإشعاعية السودانية”. وقد كان اللقاء مخصصًا، كما أوردت الوكالة، لـ”تأكيد الالتزام بإجراءات السلامة”!

أي والله، هذه هي أخبارهم، وهذا هو لسان حالهم وسط الفجيعة الماثلة!

أيّ سلامةٍ يا قوم؟ وأيّ رقابة؟ وأين هذه الهيئة أصلاً؟ وأين تعمل؟ وبأيّ نوويٍ تتحدّثون؟
وماذا يهمّ المواطن الذي يُقتل بالرصاص، ويموت جوعًا ومرضًا، ويُطارد كالطريدة في شوارع مدنه، إن تسربت ذرة إشعاعٍ متخيّلة من نووي غير موجود أصلاً، في بلدٍ ملوّث هواؤه بالكيماوي؟

أما *الخبر الثاني*، فأكثر رهافة، وأشدّ تفاهة. إذ يتحدّث عن “عبقرية” وكيل وزارة التعليم العالي، الذي طالب بترسيخ “ثقافة الأمن السيبراني” داخل مؤسسات الدولة! نعم، كما قرأت!

ولا بأس، فالأمن السيبراني مهم، لكنه يصبح نكتة حين يُطرح في بلدٍ أعاده جيشه إلى عصر اكتشاف النار، وأعاد شعبه إلى عصور الإنسان الأول، حيث المأكل والمسكن والملبس هي المعجزة.
بلدٌ ليس فيه أمنُ الخبز، ولا أمنُ الطريق، ولا حتى أمنُ الذات من النوم في فناء المنزل، تفترش الأرض وتلتحف السماء، فتُصيبك رصاصة ميليشيا تسطو بحكم التخصّص والمهمّة، لا الجريمة!

إنها مشاهد عبثية، لا يمكن تفسيرها إلا بانفصالٍ تام عن المأساة، وانشغالٍ بما لا طائل منه؛ كتلك الرواية التاريخية الموروثة من أدب المأساة، حين سأل أحد أهل العراق *عبدَ الله بن عمر* عن حكم قتل بعوضة في الحرم، فردّ عليه مستنكرًا:
*”عجبتُ لكم، أهلَ العراق! تقتلون الحسين بن علي، وتسألون عن حكم قتل الذبابة في الحرم؟!”*

كذلك أقول أنا اليوم:
عجبًا لكم، يا كيزان السودان وجيشه؛ تهدّدون أمن البلاد، وتناقشون الأمن السيبراني!
تقتلون إنسان السودان بالرصاص والجوع والمرض، وتطلقون على أرضه السلاح الكيماوي، ثم تسألون عن السلامة النووية؟!

حقًا، لا بأس عليكم أنتم في كوكبكم، والشعب السوداني في الجحيم.

المصدر: صحيفة الراكوبة

شاركها.