هل بلغت البشرية عتبة إفلاسها الأخلاقي؟ سؤال يطرحه أمين معلوف في كتابه اختلال العالم، مستعرضاً أبعاداً ثلاثة لأزمة العصر: الفكر، الاقتصاد، والمناخ. ليست المسألة عنده مجرد أزمة ظرفية، بل هي نتاج إنهاك طويل أصاب الحضارة الإنسانية في عمقها. ومع أن تشخيصه يبدو قاتماً، إلا أن الكتاب لا يخلو من بصيص أمل في إمكانية إعادة التأسيس لمشروع إنساني مشترك.
أولاً: الاختلال الفكري حين تتحول الهوية إلى أداة صراع
يرى معلوف أن أزمة الفكر تتجلى في انفلات الهوية من كونها فضاءً للتعايش إلى أن تصبح أداة صراع وإقصاء. فالهويات التي يفترض أن تمنح الإنسان معنى وانتماء، تُستَخدم اليوم كذخيرة في النزاعات السياسية والدينية والعرقية. هذا الانزلاق، في نظره، هو جوهر الانقسام العالمي، حيث يغيب الحوار الحقيقي، ويُستبدل بجدالات عقيمة تزيد من تعميق الهوة بين المختلفين.
إن أزمة الفكر هنا ليست في تعدد الهويات بحد ذاته، بل في عجز البشرية عن بناء هوية كونية تتسع للتنوع وتؤسس للعيش المشترك. وهذا ما يجعل الفكر المعاصر أسير الانقسامات بدل أن يكون جسراً للتواصل.
ثانياً: الاختلال الاقتصادي اقتصاد بلا قيم
في المحور الثاني، يصف معلوف الاقتصاد العالمي بأنه دخل مرحلة اغتراب عن غايته الأساسية. فالاقتصاد، الذي كان أداة لخدمة الإنسان، تحول إلى غاية قائمة بذاتها، تحكمها الأسواق والمضاربات أكثر مما تحكمها القيم.
الأزمات المالية المتكررة ليست، برأيه، إلا أعراضاً لأزمة أخلاقية أعمق: فقدان التضامن، تآكل العدالة الاجتماعية، وسيطرة منطق الربح السريع على حساب الاستقرار والتنمية المستدامة.
هكذا يظهر الاقتصاد كمرآة لاختلال المنظومة القيمية الحديثة، حيث يغدو الإنسان نفسه مجرد ترس صغير في ماكينة استهلاكية عملاقة، بدل أن يكون الغاية الأولى لكل نشاط اقتصادي.
ثالثاً: الاختلال المناخي الطبيعة تدق ناقوس الخطر
أما على المستوى البيئي، فيكشف معلوف عن جانب آخر من الإفلاس الأخلاقي: تعامل الإنسان مع الكوكب بروح النهب والاستهلاك الأعمى. عقود من استنزاف الموارد وتجاهل العواقب وضعت البشرية أمام تهديد وجودي غير مسبوق.
الأزمة المناخية ليست مجرد مشكلة تقنية أو بيئية، بل هي انعكاس مباشر لغياب أخلاقيات كونية تضبط علاقة الإنسان بالطبيعة. الكوكب اليوم يواجه خطر الانهيار، بينما يستمر البشر في إدارة أزماتهم بمنطق المصالح الضيقة، متجاهلين أن المصير مشترك، وأن الخسارة ستكون جماعية.
حضارتان منهكتان: الغرب والعالم العربي
يربط معلوف هذه الاختلالات بحالتي إنهاك متوازيتين:
- الغرب الذي يتراجع عن قيمة المؤسسة كالحرية والمساواة والديمقراطية، ويقع في تناقض بين الخطاب والممارسة.
- العالم العربي العالق في مأزق تاريخي، يتأرجح بين استدعاء الماضي وعجز عن الاندماج الإبداعي مع العصر.
النتيجة أن كليهما يعيش أزمة عميقة تعيق صياغة مشروع حضاري متجدد.
بين التشخيص والأمل
ورغم قتامة الصورة، يصر معلوف على أن الأزمة ليست قدراً محتوماً. فالمخاض المؤلم قد يفتح الباب أمام وعي إنساني جديد يتجاوز الهويات الضيقة، ويعيد بناء العلاقة مع الاقتصاد والطبيعة على أسس أخلاقية.
المستقبل، برأيه، يتوقف على قدرة البشر على إبداع مشروع كوني مشترك يتخطى الحدود القومية والدينية، ويؤسس لشراكة إنسانية حقيقية قادرة على إنقاذ العالم من انهياره المحتمل.
خلاصة:
كتاب اختلال العالم ليس مجرد رصد للأزمات العالمية في مطلع القرن الحادي والعشرين، بل هو قراءة جذرية تكشف عمق الإنهاك الحضاري الذي يعيشه الإنسان المعاصر. وبين سوداوية التشخيص وإشراقة الأمل، يوجّه أمين معلوف دعوة جريئة إلى بناء وعي كوني جديد، يعيد الاعتبار للقيم والهوية المشتركة، ويضع الإنسانية على سكة النجاة.
نقلاً عن صفحة سالم يفوت على فيسبوك المتخصصة في عرض الكتب
المصدر: صحيفة التغيير