طاهر عمر

لاحظ المهتمون بالفلسفة السياسية و الفلسفة الإقتصادية أن أحداث العالم المتسارعة اليوم تنام بذرتها على أرضية أفكار فلاسفة القرن التاسع عشر و لكي تتضح الرؤية سوف أتناول في هذا المقال كيفية تسلسلها و الجميل أن أفكار فلاسفة القرن التاسع عشر كانت رنين صوت المنبه لهذه الأحداث المتسارعة الآن لأنها نتاج التحول الهائل في المفاهيم فيما يتعلق بفكرة الدول الحديثة و ممارسة السلطة و فكرة المسؤولية الإجتماعية نحو الفرد في مجتمع ما بعد الثورة الصناعية التي إبتداءت في الربع الأخير من القرن الثامن عشر أي قيام الثورة الصناعية عام 1776 و من بعدها قد أصبحت فكرة تفكيك ظاهرة المجتمع البشري وفقا لتجربة الإنسان و ضمير الوجود في إطار و حدود العقل البشري أي هي نزعة إنسانية تبحث عن مجد العقلانية و إبداع العقل البشري بعيدا عن فكرة الإرادة الإلهية.

لكي أوضح أكثر ما كتبته في أعلى المقال مثلا أن أفكار توكفيل في كتابه الديمقراطية في أمريكا و قد ظهر عام 1835 كان سببه أن هناك تحول في المفاهيم بسبب الثورة الصناعية التي قد مرت عليها سته عقود و قد أدت لتحول في المفاهيم التي تحدث عنها توكفيل في كتابه و هو يوضح فكرة قيم الجمهورية في ظلال الفكر الذي ينتج الديمقراطية الليبرالية و فيها وضوح عن فكرة الدولة الحديثة و كيفية ممارسة السلطة في مجتمع ما بعد الثورة الصناعية.

و للأسف ما زالت نخبنا السودانية تعيش في إلتباس عميق مصاحب لمفهوم الدولة الحديثة و مفهوم ممارسة السلطة في مجتمعات ما بعد الثورة الصناعية و دونك المحاصصة التي تسيطر على عقل النخب السودانية و بسببها قد أضاعوا شعار ثورة ديسمبر حرية سلام و عدالة و هو شعار لثورة فلاسفتها و أفكارها آتين من جهة المستقبل و هذا الذي غاب عن أفق النخب السودانية و قد أضاعوا شعار الثورة حينما كانت مقارباتهم لها بأفكار آتية من جهة ماضيهم ماضي النخب السودانية الفاشلة.

و الدليل عليه بأنهم قد إرتضوا بالشراكة مع العسكر و كله بسبب كسادهم الفكري الذي أخفى عن أعينهم أن عالمنا اليوم و أحداثه المتسارعة قد بذرتها أفكار فلاسفة و علماء إجتماع القرن التاسع عشر و إقتصاديه في حديثهم عن قيم الجمهورية و كيف قد أصبحت الليبرالية و فكرها بشقيه السياسي و الإقتصادي ليست نظام حكم فحسب بل فلسفة تهتم بكيفية ترسيخ فكرة العيش المشترك الذي لا يكون بغير فصل الدين عن الدولة بل قد أصبحت الديمقراطية الليبرالية بديلا للفكر الديني.

المضحك المحزن عندما نتحدث عن أن الديمقراطية الليبرالية قد أصبحت بديلا للفكر الديني نعرف جيدا أن وقع هذه الكتابة على النخب السودانية العاجزة عن التضحية بالهوية الدينية تقع كالصاعقة على مسامعهم لذلك ليس من بينهم من يعرف كيف قد تخلص و ضحى القديس توما الإكويني بهويته الدينية و كيف تطورت أفكار النزعة الإنسانية التي ترتكز على مجد العقلانية و إبداع العقل البشري في وقتها و بفضلها تصبح إمكانية تأليه الإنسان و أنسنة الإله ممكنة بعيدا عن الترقيع الذي تجيده النخب السودانية في محاولاتهم البائسة في المؤالفة بين العلمانية و الدين.

و هذا قول أي المؤالفة بين العلمانية و الدين لا يقوله إلا من يجهل بأن مفهوم الدين قد أصبح أفقي و ليس عمودي و هذا هو نتاج التحول في المفاهيم و من ضمنه و نتاجه مفهوم الدين التاريخي الذي تخافه أغلبية النخب السودانية لأنه يقول لهم أن الدين عقيدة و ليس دولة و هو أفق الرجاء للفرد بينه و ربه بعيدا عن تجار الدين من كل شاكلة و لون في متاجرتهم بتراكم ظلمات الروح و إستثمارهم في تاريخ الخوف في غياب أفكار تاريخ الذهنيات الذي يعرف كيف يصل العقل الجمعي الى غاياته المحزنة و حينها يحتاج لشخصية تاريخية تعرف لحظات إنقلاب الزمن و تقدم فكر مفارق للقديم كما فعل مارتن لوثر في فكرة الإصلاح الديني.

لحسن حظنا أنا عالم اليوم و أحداثه المتسارعة قد بذرت بذرتها في أفكار فلاسفة القرن التاسع عشر و هي تقول لنا لأول مرة أن البشرية كافة قد أصبحت لها تاريخ واحد و هو نتاج ظلال الثورة الصناعية لذلك أن المجتمع البشري قد أصبح متساوق و الدليل أن هناك دول كانت من دول في طريقها للنمو و قد بلغت في مستوى نقلها للتجربة الصناعية و إنتاجيتها مستوى إنتاج الدول الصناعية الأوربية كالهند و الصين مثلا و هذا ما جعل عالمنا اليوم يدخل الى حقبة الحماية الإقتصادية و قد تستمر لثلاثة عقود أو أكثر كما كانتا كل من ديناميكية الكنزية و النيوليبرالية.

قليل من التوضيح إن أفكار كينز فيما يتعلق بالتدخل الحكومي المساعد للخروج من الكساد الإقتصادي العظيم 1929 ما هي إلا فكر توكفيل يمر عليه قرن من الزمن حينما كان يتحدث عن المسؤولية الإجتماعية نحو الفرد و لا تكون بغير علاقة الفرد بالدولة مباشرة و تحت مظلة قيم الجمهورية و فكرة الضمان الإجتماعي عند توكفيل هي الإستهلاك المستقل عن الدخل كحارس لكرامة الإنسان في معادلاته السلوكية عند كنز. هذا من ناحية الإقتصاد أما من ناحية الفلسفة السياسية نجد أفكار توكفيل بعد قرن من الزمن قد تبلورت في فلسفة التاريخ الحديثة كظل لليبرالية الحديثة كما قدمها ريموند أرون لذلك قلنا أن أفكار و روح المجتمع الآن بذرتها قد كانت في أفكار فلاسفة القرن التاسع عشر و قد لاحظوا أن الليبرالية التقليدية قد بداءت تلفظ أنفاسها الأخيرة.

و هنا نلفت القارئ المحترم لشئ مهم يجب ملاحظته و هو أن فكر الليبرالية الحديثة أحتاج لستة عقود ظل فيها العالم متأرجح ما بين فلسفة تاريخ تقليدية و فلسفة تاريخ حديثة حتى إتضحت الصورة الكاملة لفكرة مجتمعات ما بعد الثورة الصناعية و أن تاريخ البشرية لأول مرة يصبح تاريخ واحد كنتاج للثورة الصناعية و هذا ما إنتبه له نهرو عندما أختار في قراره السياسي أن تكون الهند علمانية و ديمقراطية و أقنع بفكره المهاتما غاندي الذي كان ينتظر إنبعاث الهند القديمة و أنتبهت له النخب السياسية في الصين في عام 1978 عندما أدخلت فكرة نمط الإنتاج الرأسمالي و بفضله قد أصبحت الصين في مصاف إنتاجية الدول الصناعية الاوروبية.

هذا ما جعل العالم الآن متسارع الأحداث لأن الصين و الهند قد بلغتا مستوى إنتاج الدول الصناعية الاوروبية و بالمناسبة ما يحدث الآن بسبب بلوغ الهند و الصين لمستوى الإنتاج الصناعي الأوروبي قد تحدث عنه ريموند أرون في مطلع ستينيات القرن المنصرم مؤكد بأن العالم متساوق و أن الدول التي في طريقها للنمو الإقتصادي ستصل لمستوى الإنتاج الصناعي الأوروبي و ستنتهي مسألة إستغلال أوروبا لموارد الشعوب الأخرى و هذا ما أكده الآن الفيلسوف الفرنسي عمانويل تود في تفسيره لسياسات ترامب فيما يتعلق بالضرائب و إتجاه للحماية الإقتصادية و هي أفكار من صميم الفكر الليبرالي.

و عليه يكون تنبيهنا للنخب السودانية أن العالم لا يسير بإتجاه هيمنة الصين على العالم كبديل لهيمنة الغرب لأن هيمنة الغرب كانت بسبب خيانة أوروبا للتنوير بل يسير العالم بالصين نفسها بإتجاه قبولها لمعادلة الحرية و العدالة لأن الصين الآن قد إتخذت من نمط الإنتاج الرأسمالي بديلا لفكرها الشيوعي و عليه أن هناك معادلة طردية ما بين نمط الإنتاج الرأسمالي و الديمقراطية و في الستة عقود القادمة ستكون مشكلة الصين في كيفية الإنتقال نحو الديمقراطية الليبرالية الحديثة و كذلك من المصاعب التي تقابل الصين على الهيمنة على العالم كبديل للغرب كما يتوهم كثر من نخبنا أن الصين من أكثر شعوب العالم شيخوخة من الناحية الديموغرافية خلال كل ربع قرن يشيخ المجتمع في الصين و كذلك من مشاكل الصين أن هناك إزدياد في مستوى التعليم و هذا سينتج تراكم للنخب المتعلمة المطالبة بالتغيير و الإنفتاح على العالم و أضف الى ذلك أن الدول الغربية لن تخرج من التاريخ و بالتالي يسير العالم الآن بإتجاه اللا هيمنة و سيكون هذا مآل مجتمعات ما بعد الثورة الصناعية.

و سير العالم نحو اللا هيمنة هو سيره نحو سلام العالم الذي تحدث عنه عمانويل كانط و لا يكون بغير أنثروبولوجيا الليبرالية و قيم الجمهورية في أنثروبولوجيا عمانويل كانط و فكرة العقد الإجتماعي الذي تحدث عنه عمانويل كانط و إفتراضه بأن كل فرد بالضرورة عقلاني و أخلاقي. لذلك قد يستغرب القارئ لمقال دكتور النور حمد الذي يرى بأن الديمقراطية ليست شرطا للنمؤ الإقتصادي و إمكانية الرفاه لأن الصين قد حققته بلا ديمقراطية و هذا مفارقة لأفكار عمانويل كانط عن فكرة العقد الإجتماعي التي لا يفسرها و لا تفسير لها خارج معادلة الحرية و العدالة التي لا تتحقق إلا من داخل نموذج الفكر الليبرالي بشقيه السياسي و الإقتصادي.

و كالعادة دكتور النور حمد له جرءة على الأقوال العجيبة دون أن يكلف نفسه بإلتفاتة سريعة الى فلسفة التاريخ الحديثة و لو تريث الدكتور النور حمد قليلا و سأل نفسه عن إنجازات الإتحاد السوفيتي الصناعية التي كانت تفوق الصين أين الإتحاد السوفيتي الآن و الشيوعية؟ لما طرح النور قوله بأن الديمقراطية ليست شرطا للرفاه الإقتصادي.

ربما فات على دكتور النور حمد بأن النظام الرأسمالي و ديمقراطيته يمر دوما بأزمات دورية و يخرج منها أكثر قوة عكس النظم الشمولية التي توردها أزماتها موارد الهلاك كما حصل مع الشيوعية لذلك نقول للدكتور النور حمد أن الديمقراطية شرط من شروط تحقيق الرفاه الإقتصادي و ما أزماتها الدورية التي تخرج منها إلا حالة تكون فيها الديمقراطية ضد الديمقراطية و تتجاوزها كما يقول عالم الإجتماع الفرنسي مارسيل غوشيه في سيره لتوضيح فكرة الدولة الحديثة التي قد أصبحت فيها الديمقراطية بديلا للفكر الديني و هو يؤكد فكرة زوال سحر العالم عند ماكس فيبر في حديثه عن أن الدين لم يعد له دور بنيوي في السياسة و الإقتصاد و الإجتماع.

و أيضا نقول لدكتور النور حمد أن بريطانيا كانت الإمبراطورية التي لن تغيب عنها الشمس و كانت هي سيدة العالم فيما يتعلق بالإقتصاد في إمتداد زمني منذ ثلاثينات القرن التاسع عشر أي منذ عام 1830 و عندما حانت ساعة غروب شمسها غابت الإمبراطورية البريطانية و إستمرت الأفكار التي تطوّر الفكر الليبرالي الديمقراطي.

لذلك حالة الإختناقات الإقتصادية الراهنة و بسببها تظهر الإختلالات السياسية بسبب وصول الهند و الصين الى مستوى إنتاج الدول الصناعية الأوروبية سوف تبعد هيمنة الغرب الصناعي عن خيانة أوروبا الى التنوير و لكن لن تفتح الطريق الى هيمنة الصين كبديل للغرب لأن العالم يسير نحو سلامه أي حيث اللا هيمنة و هذا الحديث أي غياب الإمبراطورية البريطانية و غياب شمسها هي و إستمرار الفكر الليبرالي الديمقراطي من بعدها نجده في صميم كتابات المؤرخ البريطاني جون دارون.

لذلك نقول لدكتور النور حمد أن الديمقراطية ستظل شرط مهم لسلام العالم و بالتأكيد لتحقيق الرفاه الإقتصادي و هذا ما يضمره فكر عمانويل كانط في عقده الإجتماعي و رؤيته لسلام العالم في مسيرته التي توضح سير الإنسانية التاريخية و عليه تصبح مسألة التحول الديمقراطية في السودان روح ثورة ديسمبر التي ترتقي أن تكون في مصاف الثورات الكبرى التي تعقبها تشريعات كبرى تنقل مجتمعنا السوداني الى مستوى سير الإنسانية التاريخية متجاوزة إختناقات الحرب العبثية بين الجيش الكيزاني و صنيعته الدعم السريع.

عندما نقول أن أفكار توكفيل كانت بذرتها قد بذرتها الستة عقود للتحولات الهائلة في المفاهيم التي نتجت من قيام الثورة الصناعية كذلك قد أصبحت أيضا أفكار توكفيل بذرة ظهرت شجرتها بعد ما يقارب الخمسة عقود و قد ظهرت في أفكار فلاسفة و علماء إجتماع و إقتصاديون إنتبهوا الى أن الليبرالية التقليدية لم تعد تعمل و أن أنوار ليبرالية حديثة قد بداءت تطل و نذكر من ضمنهم أرنولد توينبي الكبير المتوفي عام 1883 و هو عم المؤرخ البريطاني الشهير أرنولد توينبي و قد إنتقد الإستعمار قبل مئة عام و وصفه بأنه تتجلى فيه خيانة أوروبا للتنوير و في نقده للإستعمار يسبق بقرن كامل من يتحدثون عن دولة ما بعد الكلونيالية كما نجدها في كتابات أتباع اليسار السوداني الرث عندنا في السودان و هي كتابات قد إنتقدت الأفكار التي ترى في أفكار آباء الفكر الليبرالي أنهم آباء لحقبة الإستعمار و هذا زعم لن يوافقهم عليه تاريخ الفكر الإقتصادي.

[email protected]

المصدر: صحيفة الراكوبة

شاركها.