كان أحد أبرز المؤشرات على وجود أطفال في ساحات المواجهات العسكرية التصريح الذي أدلى به وزير التربية والتعليم بسلطة بورتسودان التهامي الزين، حين دعا إلى إعفاء الطلاب المشاركين في صفوف الجيش من الرسوم الدراسية، وهو التصريح الذي أثار جدلًا واسعًا واعتُبر من قبل مراقبين بمثابة اعتراف رسمي بمشاركة طلاب في الحرب المستمرة حاليًا.

التغيير: فتح الرحمن حمودة

لم يكن القرار خالصًا من إرادة ابنها وحده، بهذه الكلمات بدأت “ن.أ” من سكان العاصمة الخرطوم التي فضلت حجب اسمها، وقالت: ابني كان متأثرًا بالخطاب الديني والاجتماعي المحيط به، لكن الحماس الذي يملأ قلوب الصبيان في مثل عمره دفعه نحو خيار لم يفكر في عواقبه، مضيفة: نحن كعائلة بين شعورين متناقضين، من جهة إحساس بالفخر لأنه يريد الدفاع عما يراه قضية عادلة، ومن جهة أخرى يسكننا خوف لا يغيب لأنه ما زال صغيرًا ولم يكتمل وعيه.

فقدان الإحساس بالأمان

وتضيف الأم في حديثها لـ”التغيير”: أكبر ما فقدناه هو الإحساس بالأمان، ونعيش كل يوم في ترقب خبر سيئ، خاصة بعدما فقدنا كثيرًا من أبناء الجيران في هذه الحرب، ونخشى أن نفقده جسديًا إذا أصيب أو قُتل، لكن نخاف أكثر أن نفقده نفسيًا إذا عاد محملًا بآثار الحرب الثقيلة، فحالهم حال كثير من الأسر السودانية التي ما زال يشارك أطفالها في الحرب الحالية.

وهذه الشهادة ليست حالة فردية، فمع استمرار حرب السودان بين الجيش السوداني وقوات الدعم السريع وتوسع رقعة العمليات العسكرية، برزت قضية تجنيد الأطفال كأحد أكثر مظاهر النزاع إثارة للجدل والقلق، حيث كانت هناك مقاطع فيديو متداولة على وسائل التواصل الاجتماعي أظهرت أطفالًا ومراهقين في ساحات المواجهات، وهو ما أثار ردود فعل على نطاق واسع داخل وخارج البلاد، وفتح الباب أمام نقاشات حادة حول المخاطر التي يتعرض لها صغار السن في بيئة النزاع الحالي، وما إذا كان تجنيدهم بات سياسة أمر واقع تتبناها أطراف الاقتتال.

قضية مثيرة للجدل

ويرى مختصون أن هذه القضية لا تتعلق فقط بالقوانين والمعايير الدولية، بل تلامس حياة الأسر السودانية مباشرة في ظل غياب آليات واضحة للحماية وضمان بقاء الأطفال بعيدين عن الجبهات، خصوصًا والآن الأطفال أصبحوا الحلقة الأضعف في حرب تستنزف المجتمع برمته، في الوقت الذي يواصل فيه الطرفان تبادل الاتهامات بشأن الانتهاكات.

طفل مشارك في الحرب

وكان أحد أبرز المؤشرات على وجود أطفال في ساحات المواجهات العسكرية التصريح الذي أدلى به وزير التربية والتعليم بسلطة بورتسودان التهامي الزين حين دعا إلى إعفاء الطلاب المشاركين في صفوف الجيش من الرسوم الدراسية، وهو التصريح الذي أثار جدلًا واسعًا واعتُبر من قبل مراقبين بمثابة اعتراف رسمي بمشاركة طلاب في الحرب المستمرة حاليًا.

وقد تباينت على مواقع التواصل الاجتماعي ردود الأفعال، حيث كتب دوالا خليفة، أن تجنيد الأطفال ليس جديدًا في البلاد، ففي حرب الجنوب كان يتم خطف الأطفال، وكذلك الأمر في اليمن، وأضاف: نحن نوعى فقط وقت اشتعال النار ونرجع نغفل لما تهدأ، متمنيًا أن يحضر عهد جيد أفضل من الحالي.

مختصون: القضية لا تتعلق فقط بالقوانين والمعايير الدولية، بل تلامس حياة الأسر السودانية مباشرة

أما منتصر إبراهيم، فذهب أبعد من ذلك، مشيرًا إلى أن الظاهرة متجذرة في تاريخ الحروب السودانية، قائلًا: إن تاريخ تجنيد الأطفال في السودان ممتد من أيام حركات الكفاح المسلح إلى الدفاع الشعبي، مضيفًا: اليوم نسمع عن “جنى جيش” و”شبال”، لكن الحقيقة أن الطبقة السياسية والعسكرية تواصل استغلال الصغار بلا سقوف أخلاقية، مرة باسم الثورة وأخرى باسم الدين، والمطلوب حملة واسعة لفضح هذه الجريمة.

من جانبها اعتبرت ميار عبد السلام، أن المسألة باتت سياسة دولة أكثر من كونها تجاوزات فردية، قائلة: إن العالم أجمع على أن تجنيد الأطفال جريمة حرب، ولكن في حرب السودان أصبحت سياسة تقودها المؤسسة العسكرية، وللأطفال مكانهم المدرسة والكتاب، لكن يتم دفعهم إلى ساحات أخرى لا تخصهم، وهذا وصمة عار في جبين كل من يلتزم الصمت.

وأصبح ملف مشاركة الأطفال والطلاب في حرب السودان لا يثير فقط قلقًا حقوقيًا، بل يطرح أسئلة تربوية واجتماعية وعسكرية وصحفية، وتبقى الحاجة إلى الاستماع لوجهات نظر متعددة توضح أبعاد هذه القضية من زوايا التعليم والقانون والجانب العسكري والإعلامي.

أسئلة تربوية واجتماعية وأمنية

في هذا الصدد أوضح عضو لجنة المعلمين السودانيين، سامي الباقر، أن مشاركة طلاب المدارس في القتال الدائر حاليًا باتت حقيقة لا يمكن إنكارها، وأضاف في حديثه لـ”التغيير” أن تصريح الوزير يعترف بجريمتين: الأولى تجنيد الأطفال وهي جريمة حرب بموجب القانون الدولي، والثانية فرض رسوم التعليم وهو ما يتناقض مع مبدأ مجانية التعليم الذي صادق عليه السودان، وهذا اعتراف صريح بخيار خطير يتبناه النظام.

فيما يرى الخبير الاستراتيجي أمين مجذوب، أن تجنيد الأطفال مرفوض تمامًا بموجب قوانين الأمم المتحدة واتفاقيات جنيف، لكنه أقر بوجود تجاوزات في مناطق النزاع، وقال لـ”التغيير”: إن الدعم السريع يعتمد بشكل أساسي على أبناء القبائل وبعضهم لم يتجاوز الحادية عشرة من عمره، في المقابل القوات المسلحة رسميًا تمنع التجنيد دون سن الثامنة عشرة، لكن في بيئات فقيرة ومنعدمة الزراعة يصبح هذا الانخراط في القتال خيارًا شائعًا، وأي تجاوزات في هذا السياق تشكل جناية كبيرة على المجتمع.

خبير استراتيجي: في بيئات فقيرة ومنعدمة الزراعة يصبح هذا الانخراط في القتال خيارًا شائعًا

بينما أكد الصحفي والمحلل السياسي إيهاب مادبو، أن تجنيد الأطفال ليس جديدًا على البلاد، مذكرًا بتجارب الحركة الإسلامية في فترة التسعينيات حين استخدم الدفاع الشعبي في مناطق النزاع، وقال لـ”التغيير”: إن الحرب الحالية كشفت عن انتهاكات واسعة لحقوق الأطفال، فتصريحات الوزير بشأن إعفاء المقاتلين الصغار من الرسوم تعني اعترافًا رسميًا من الجيش بمشاركتهم، كما رأينا سابقًا كيف تم نقل نحو “200” طفل إلى كادقلي عام 1992 من قبل المؤتمر الوطني ومعظمهم لقوا مصرعهم لافتقارهم للخبرة، واليوم الجيش يعيد المشهد نفسه.

وأشار الخبير التربوي إسماعيل شريف، إلى أن سياسة الإعفاء من الرسوم الدراسية إقرار مبطن بوجود طلاب مشاركين في الحرب، وقال لـ”التغيير”: هذا أشبه بتحفيز غير مباشر للطلاب وأسرهم للانخراط في الحرب، فالخاسر الأول والأخير هم الأطفال الذين يفترض أن يكونوا أساس بناء المستقبل لا وقودًا لنزاعات لا تنتهي.

وتشير المواثيق الدولية بوضوح إلى أن إشراك الأطفال دون الثامنة عشرة في النزاعات المسلحة يعد جريمة حرب، ورغم توقيع السودان على اتفاقية حقوق الطفل والبروتوكول الاختياري بشأن الأطفال في النزاعات المسلحة، إلا أن ممارسة الجيش السوداني وقوات الدعم السريع على الأرض كشفت عن فجوة بين الالتزامات الرسمية والواقع.

اطفال بقوات الدعم السريع إرشيفية

آثار نفسية واجتماعية

ويتفق خبراء الاجتماع والتربية على أن مشاركة الأطفال في الحروب تخلف آثارًا عميقة تتجاوز ساحات المعارك، إذ يُحرم الصغار من التعليم وتُشوه هوياتهم في مرحلة حساسة من النمو، كما أن إعادة دمجهم لاحقًا في المجتمع تصبح مهمة شاقة، ما يهدد بظهور أجيال مأزومة نفسيًا وفاقدة للثقة.

وكشف ملف تجنيد الأطفال في الحرب السودانية عن تعقيدات إنسانية وسياسية وأخلاقية عميقة، وبينما ينظر العالم إلى هذه الممارسات باعتبارها جرائم حرب، لا يزال المجتمع السوداني عالقًا في حلقة مفرغة من الحرب التي يدفع ثمنها الأجيال الصاعدة، فهل سقطت حماية الطفولة من أجندة المتحاربين في السودان؟

المصدر: صحيفة التغيير

شاركها.