أبو حشيش سلبونا السودانية , اخبار السودان
فيصل محمد صالح
غبت عن بورتسودان حوالي ثلاث سنين ونصف، تلك فترة طويلة، نويت أكثر من مرة أن أذهب، ولم بقدر الله أن نرفع القدم، حتى حلت علينا الطامة، نزحت مثل غيري عن الخرطوم حين ضاقت بنا الحال، وعشنا أسابيع بلا كهرباء أو مياه أو شبكة اتصال، كما انقطعت الامدادت الغذائية عن حينا وأغلقت البقالات والمخابز أسواقها، وقالت لنا مدن النزوح واللجوء “هيت لكم”.
امتدت الحرب وطالت ألسنة النار مناطق كثيرة، فنزح الناس مجبرين، وكانت مدينتي بورتسودان واحدة من أكبر مدن النزوح، فقد نزحت إليها الحكومة بقضها وقضيضها، مثلما نزح إليها عشرات الآلاف.
يتجول الناس في المدينة وينشرون الصور حيثما كانوا، في السوق الكبير، على الكورنيش، فيورق القلب وتشتعل الذكريات، فأرى ما تبقى من مسرح الثغر، ثم محل الراحل الظريف سمارة رحمه الله، واقول لصديق قديم مثلي..هنا كان كشك ” جنة الشاطئ” الذي ما زلت أجد في لساني شيئا من باقي طعم سندوتشات الكبدة الساخنة التي لم أتذوق مثلها في حياتي….، وهنا قيل لنا أنه الحجر الذي كان يجلس عليه سيدنا الشاعر بازرعة، ويغني “يا ربى البحر أشهدي…هاهنا كان مقعدي…وهنا كان موعدي”
ينشر أحدهم فييديو وهو يعبر بداية “ترب هدل” فأقول في سري..هنا كان كشك “تكنجة”.. الذي يعد أشهر طبق كوارع في المدينة. لم أكن من آكلي الكوارع، ولم أتذوقها حتى الآن، لكن كانت شلتنا في النادي، عندما يكون الجيب عامرا من العمل في الميناء، تقرر أنها ليلة الكوارع، فأصحبهم مضطرا، ممنيا نفسي ببعض الفول.
يزور الناس مطاعم السمك في السقالة، فأتذكر أننا لعبنا الدافوري هنا، وكنا أيام امتحانات الشهادة الثانوية ندعي أن المذاكرة في الشاطئ تجعل المقررات ترسخ في الذاكرة، وكان البحر، هكذا كنا نسميه بدون أن نقرن معه كلمة الشاطئ، يمتلئ بالطلبة والطالبات، تنتشر التحايا من بعيد، وترسل الابتسامات خفية، فيطويها من تصله بين ضلوعه، ويصحبها معه للنوم.
أرى بيوت الموانئ تملأ المساحة بين أبو حشيش سلبونا، ولم يكن الأمر هكذا في زماننا، كانت بيوتنا، التي تسمى بيوت المحلج، تقف منفردة في بداية سلبونا، ثلاث صفوف مبنية من بلوك الاسمنت منذ الاربعينات، وقد لا يعلم الكثيرون أن بورتسودان ليست بها تربة طينية لصناعة الطوب الاحمر، لهذا تبنى المنازل من البلوك الاسمنت، أو من الخشب، وأحيانا يتزاوجان في جمال عجيب.
كنا عندما نخرج من مدرسة أبو حشيش الابتدائية قاصدين بيوتنا، نعبر أخر شارع في أبو الدهب، فتبدو لنا بيوتنا من بعيد، شامة على خد سلبونا. هجمت علينا بيوت الموانئ وأخفت الملامح القديمة. كانت المدارس الابتدائية موجودة بسلبونا، لكن يبدو أن والدي، رحمه الله، تفاءل بمدرسة أبو حشيش التي درس بها أخي الاكبر هاشم، رحمه الله، ونجح منها للمرحلة الوسط، فأخذني لنفس المدرسة.
كنا نجلس ذات يوم في شقتنا الطلابية بالقاهرة، ومعي صديق طفولتي وشبابي الدكتور عمر حموري الذي أتى قادما من رومانيا حيث كان يدرس، فيمر علي في القاهرة لنعود لبورتسودان معا. ولعلم “المستوطنين الجدد”، منذ ذلك الوقت كانت هناك سفريات طيران من بورتسودان للقاهرة، وليس الامر جديدا.
كنا نتسامر مع صديقنا مالك خضر القاطن في كندا الأن، فرويت لهم قصة قبولي بالمدرسة الابتدائية، قلت لهم أن عمر كان يقف مع والده عم سر الختم حموري على مقربة منا، وحين نادوا على اسمه رد بصوت عال “نعم”، فالتفت إلي والدي وقال لي “لما يندهوك خليك شاطر زي ود حموري وقل نعم بصوت عالي” وقد فعلت. كان عمر يسمع بهذه القصة للمرة الاولى، وليتني ما فعلت فقد صار يستغلها كل مرة حين نسأل عن سر أننا درسنا كل المراحل معا، فينبري عمر “ياخي دة معتمد علي، بيبص مني قبل ندخل المدرسة”.
حين تمر ذكرى مدرسة أبوحشيش الابتدائية، تقفز للذاكرة صور سوق أبوحشيش، كنا في طفولتنا نراه عامرا بكل شئ، نفطر الفول في مطعم أبو الخيول، وأظنه كان يمانيا، ثم نمر بقهوة “البهو الفرعوني” وأصحابها سودانيين عاشوا بمصر، وكنت اندهش من منظر الشيشة.كان ابن عمي الراحل حاج عباس يملك بقالة ومطعما بالسوق، وعندما يأتي للمنزل يوم الجمعة يسألني لماذا لا أتي للافطار بمطعمه القريب من المدرسة، فأفعل ذلك مرة كل أسبوعين أو ثلاثة. لا زلت أذكر ذلك الافطار المميز لطالب في الابتدائي: صحن فيه عدس..وبالجنبة قطع من الكبدة والكباب. ينتظرني زملائي في المدرسة كلما أعود لاصف لهم إفطاري المميز وأنعم برؤية نظرات الحسد.
حين كبرنا وذهبنا للمدرسة المتوسطة في الجزء الأخر من المدينة الذي نسميه “البر” كان ذلك فتحا عظيما، نعبر الكوبري من البر الشرقي للبر الغربي، فندخل في عالم من الدهشة، أجزخانة الجامع، بوتيك منى، دايرام، بقالة الوردة البيضاء، وأظنه أول سوبر ماركت في السودان، استديو العظمة لصاحبه أبو الحسن مدني، ثم قهوة رامونا التي يجلس عليها الكبار، وننعم بالنظر إليها من بعيد، حديقة البلدية المخططة بنظام العلم البريطاني، ثم عالم الدهشة والإبهار الذي تعرفنا عليه في سينما الشعب وسينما الخواجة….وكنت من مدمني أفلام الكاوبوي، حين كان رفاقي من عشاق السينما الهندية.
لم أكن لاعب كرة ماهر، لكن لحسن حظي لم يكن نادينا “الاستقلال فريق كرة قدم فقط، فقد كان يطبق شعار “نادي رياضي ثقافي اجتماعي”، كان فعلا متعدد الأنشطة الاجتماعية والثقافية والفنية، فوجدنا أنفسنا فيه. كنا نقيم فصول التقوية للطلاب، وننظم الاحتفالات والأسواق الخيرية، ولدينا فريق كرة قدم جيد ينافس ويحرز البطولات. كنت دائما احتياطي لصديقنا محمد عبد السلام “تيل” في خانة الجناح الأيسر، فقد كان لاعبا ماهرا، لكن حين يسافر يخلو لي الجو.
لعبنا مباراة ضد فريق “الشعلة” وكانت أخر مباراة في الدوري وستحدد البطل. تعادلنا بهدف لكل، ثم أهدى لي زميلنا الحريف عبد الحميد تمريرة من ذهب، تجاوزت المدافع الاخير وأودعتها المرمى هدفا سيكسبنا الدوري. تهامس عمر حموري مع رباعي الدفاع “لو جبنا الدوري بهدف فيصل حيطلعنا من البلد…سدوا ورا أنا ماشي قدام”. اشترك في كرة ركنية وقفز في الهواء ليحرز الهدف التالت، وجرى فرحا “بعد دة فيصل لو عايز هدفه يشيلوا معاهو”….لكن مراده لم يتم، فقد أحرزت الشعلة هدفا ثانيا، وصار احتساب هدفي ضروريا لنكسب المباراة والدوري.
كنا نجلس على شاطئ البحر القريب من بيوتنا، ونرصد السفن التي ترابط في البحر في انتظار دخول الميناء، كنا نحفظ سفن سودان لاين ونعرف كباتنها وبحارتها، وكثيرون منهم من أبناء منطقتنا، حين أنظر الآن للميناء الخالي من سفننا أشعر بحسرة، حوالي خمسة عشر باخرة تبخرت كلها في الهواء…يا للحسرة.
سلام على هذه المدينة الجميلة وعلى أهلها الطيبين، وعلى أهالي أبو حشيش سلبونا، وهي منطقة ينطبق عليها وصف حميد ، فبيوتها تفتح لك إذا طرقت الباب أو لم تطرقه، سلاما على شوارعها الأمنة، وعلى حضن الأمهات والخالات المفتوح لنا دائما، وعلى حنية وطيبة الآباء الذين كانوا جميعا آباء لنا، يعرفوننا ونعرفهم، ما أن أذهب إليها وأزور بيوت الاهل والجيران والتقي بالكبار منهم، تنفتح سبرة والدي ووالدتي، رحمهما الله، حتى تنهنه الأصوات، تسيل الدموع ، ثم تختلط بالضحكات حين نستعيد طريف الذكريات.
المصدر: صحيفة التغيير