🖋️د. الوليد آدم مادبو
يمثل تحرير مدينة الفاشر من قبضة الدولة المركزية لحظة فارقة في تاريخ السودان الحديث، ليس فقط من الناحية العسكرية، بل بوصفه تحولاً عميقاً في ميزان القوى بين المركز والهامش. *هذا الحدث الكائن لا محالة يعبّر عن نهاية مرحلة وبداية أخرى*، يعاد فيها ترتيب العلاقة بين الريف والمدينة، بين المركز المسيطر والأطراف المهمّشة، على أسس جديدة أكثر عدلاً وإنصافاً.
لعقود، خضعت دارفور وغيرها من مناحي الريف السوداني لمنظومة حكم كرّست التراتبية العرقية والاجتماعية، وسعت إلى احتواء المجتمعات المحلية عبر أدوات الدولة الرسمية وغير الرسمية. *تلك المنظومة اعتمدت على تكوين سياسياقتصاديثقافي منحاز،* جعل من المركز، وبخاصة ولاية نهر النيل، مركزاً للقرار والثروة، بينما أبقت الأطراف في حالة تبعية دائمة.
لم تكن هذه الهيمنة محض مصادفة أو نتيجة لتفاوتات طبيعية، بل كانت ناتجة عن مشروع تاريخي طويل استند إلى الاستعمار، ثم واصلته الدولة الوطنية بأشكال مختلفة من خلال التمييز المؤسسي، *التهميش المتعمد، وتغييب المجتمعات الطرفية عن مواقع القرار الفعلي*. تحرير الفاشر لا يعني فقط انتصاراً عسكرياً في معركة ضد سلطة مركزية انهارت، بل يشير إلى استرداد الأطراف لزمام المبادرة. إنها لحظة كشف، يتجلى فيها مدى هشاشة المنظومة المركزية حين تفقد أدوات السيطرة، ومدى روى وتتسلح بإرادة التغيير.
لكن هذا التحول لا يكتمل إلا بفهم أعمق لأبعاده: إنه *لحظة لمراجعة النموذج السوداني في الحكم*، الذي ظل يعيد إنتاج نفسه عبر انقلابات النخب وتدوير نفس الفاعلين من دون تغيير حقيقي في البنية. وهو أيضاً دعوة لإعادة بناء الدولة على أسس جديدة: دولة تعترف بالتنوع، تُحيِّد العسكر، وتتبنى نظام حكم فدرالي حقيقي يعيد الاعتبار للمجتمعات المحلية.
ما يجري اليوم في دارفور وكردفان ليس مجرد صراع مسلح، بل هو نتيجة مباشرة لفشل مشروع الدولة المركزية في احتواء التنوع السوداني، وفي تحقيق العدالة والتنمية المتوازنة. ما تطرحه قوى الهامش الآن هو إعادة تعريف لمفهوم “الوطنية” بعيداً عن الصيغة الأحادية التي اختزلت السودان في المركز وفرضت على البقية التبعية أو التمرد.
*ولذلك فإن تحريرا الفاشر ليس معركة جهوية، بل هو لحظة سودانية بامتياز.* هو نتاج لتراكم الظلم، وهو أيضاً فرصة لتأسيس مشروع وطني جديد، يقوم على الإرادة الشعبية، وعلى قيم العدالة والمساواة، لا على إرث القوة أو الامتيازات التاريخية.
لكي يُترجم هذا التحول إلى واقع دائم، لا بد من حوار وطني شامل يعترف بواقع الأزمة، ويتجاوز الحلول السطحية التي لطالما اعتمدتها النخب السياسية. آن الأوان لتبني نظام رئاسي انتخابي يكفل تمثيلاً عادلاً للمجتمعات المحلية، ويضمن التوزيع العادل للموارد والسلطة. كما يجب التأسيس لدولة علمانية تمنع تغول الساسة على الدين، وتُعلي من شأن المواطنة المتساوية.
*ختامًا*، إن التحديات القادمة كبيرة، لكن لحظة الحقيقة قد حانت. وإذا لم يُستثمر هذا التحول لصياغة مستقبل جديد، فإننا سنظل ندور في حلقة مفرغة من الحروب والانتقالات الفاشلة.
تحرير الفاشر، إذن، ليس نهاية المعركة بل بدايتها. إنها بداية لاستعادة السودان من بين أنقاض الدولة الفاشلة، وبداية لتصوّر وطن يتّسع لجميع أبنائه.
المصدر: صحيفة الراكوبة