تحل اليوم الخميس ذكرى وطنية عزيزة، وهي استرجاع وادي الذهب، في مسار استكمال الوحدة الترابية. إذ بتاريخ 14 غشت 1979، خاطب الملك الراحل الحسن الثاني طيب الله ثراه أبناء القبائل الصحراوية:
“إننا تلقينا منكم اليوم البيعة، وسوف نرعاها ونحتضنها كأثمن وأغلى وديعة. منذ اليوم، بيعتنا في أعناقكم، ومنذ اليوم من واجباتنا الذود عن سلامتكم والحفاظ على أمنكم والسعي دوماً إلى إسعادكم. وإننا لنشكر الله سبحانه وتعالى أغلى شكر وأغزر حمد على أن أتم نعمته علينا فألحق الجنوب بالشمال ووصل الرحم وربط الأواصر”.
فإذا كان المغرب تحت قيادة الملكين الراحلين محمد الخامس والحسن الثاني نور الله ضريحهما وخلد في الصالحات ذكرهما قد استكمل وحدته الترابية باسترجاع كل من طرفاية، سيدي إفني، وتنظيم مسيرة خضراء سنة 1975، وأخيراً استرجاع وادي الذهب سنة 1979، فإن صاحب الجلالة الملك محمد السادس أسماه الله وأعز أمره قد أطلق في العهد الجديد مسيرات تنموية حولت الأقاليم الجنوبية الصحراوية إلى لؤلؤة، وقطب اقتصادي، تنموي، استثماري، وتنافسي.
بمناسبة الذكرى الأربعين للمسيرة الخضراء، أطلق جلالة الملك حفظه الله ورعاه النموذج التنموي الخاص بالأقاليم الجنوبية، والذي تم توقيعه في العيون سنة 2015، والداخلة سنة 2016، خُصص له غلاف مالي يتجاوز 77 مليار درهم، إذ بلغت نسبة الالتزام حوالي 80% من مجموع الغلاف المالي المخصص له، كما جاء في خطاب المسيرة الخضراء سنة 2022.
دبلوماسية تنموية تعزز الإشعاع القاري والدولي للأقاليم الجنوبية
ما يهمنا في هذا التحليل هو إقليم وادي الذهب، وعليه سنعمل على تسليط الضوء على أهم المشاريع التي تم إطلاقها في جهة الداخلة وادي الذهب، وذلك من خلال ما يلي:
من بين الأمور المهمة التي تم إطلاقها، نجد الطريق السريع تزنيت الداخلة، الذي بلغت تكلفته حوالي 10 ملايير درهم، سيعزز من الروابط الاقتصادية والتجارية بين المغرب وعمقه الإفريقي، وربط المنطقة بالشبكة الكهربائية الوطنية، ثم تقوية وتوسيع شبكات الاتصال.
وفي إطار التنزيل الاستراتيجي لـ”الجيل الأخضر” و”أليوتيس”، تمت برمجة العديد من الأوراش الكبرى التي تخدم التنمية الفلاحية، من قبيل محطة تحلية مياه البحر بالداخلة، مزودة بحقل ريحي وشبكة ري حديثة، بشراكة بين القطاعين العام والخاص، إذ خصص لها غلاف مالي يقدر بـ2.6 مليار درهم. كما نجد قنوات التسويق الخاصة بالمنتجات الفلاحية، وتم توفير وتطوير أزيد من ستة آلاف هكتار بالداخلة وبوجدور، ووضعها رهن إشارة الفلاحين الشباب من أبناء المنطقة. بالإضافة إلى ذلك، تم إنشاء وحدة صناعية مخصصة لتثمين الموارد البحرية، وإعطاء انطلاقة برنامج توزيع أجهزة إرسال الإغاثة لتحديد الموقع عبر الأقمار الاصطناعية في حالة الحوادث في عرض البحر لفائدة قوارب الصيد التقليدي.
تماشياً مع أهداف التنمية المستدامة، تم إطلاق مشاريع الطاقات المتجددة بالأقاليم الجنوبية (الطاقة الشمسية والريحية). كما يعتبر خليج وادي الذهب موقعاً ذا أهمية بيولوجية وإيكولوجية، إذ يخضع للعناية من طرف مؤسسة محمد السادس لحماية البيئة.
أضف إلى ذلك، تم الاعتماد على الاقتصاد الأزرق والسياحة الشاطئية والصحراوية. كما استفادت جهة الداخلة وادي الذهب من مشاريع المبادرة الوطنية للتنمية البشرية، لاسيما مشاريع سوسيواقتصادية من قبيل تقديم الدعم لمراكز غسيل الكلى، ومراكز استقبال وإيواء الأطفال المهجورين، وأطفال التوحد، بالإضافة إلى مرافق رعاية مدمني المخدرات. كما تم إطلاق مشاريع تهم تحسين الدخل والإدماج الاقتصادي للشباب، من دعم مبادرات التشغيل الذاتي. كل هذا يصب في اتجاه تحسين ظروف عيش الساكنة الصحراوية والرفع من معدل النمو الاقتصادي.
وفي الجانب التعليمي، توجد بجهة الداخلة وادي الذهب، المدرسة الوطنية للتجارة والتسيير، والمدرسة العليا للتكنولوجيا. كما سيتم افتتاح كلية الطب، كلية العلوم التمريضية ومهن الصحة، والمدرسة العليا للمهندسين. أما في الجانب الصحي، ففي أفق تعزيز العرض الصحي وتحقيق العدالة المجالية والتنمية الصحية، سيتم تدشين المركز الاستشفائي الجامعي بالجهة. وفي الجانب الثقافي، يتم النهوض باللغة والثقافة الحسانية.
وحسب خطاب المسيرة الخضراء سنة 2023، فقد أكد جلالة الملك حفظه الله ورعاه أنه سيتم التفكير في تكوين أسطول بحري تجاري وطني قوي وتنافسي.
العمق المغربي الإفريقي: تعاون جنوب جنوب
هناك ثلاثة مشاريع مهمة حالياً ستعزز من العمق المغربي الإفريقي، نجد:
ميناء الداخلة الأطلسي، الذي سيعزز الواجهة الأطلسية للأقاليم الجنوبية على غرار ميناء طنجة المتوسطي الذي عزز الواجهة المتوسطية للمغرب. وبالتالي، سيساهم في زيادة نسبة الاستثمارات الأجنبية المباشرة، والتجارة الدولية. بالإضافة إلى ذلك، سيكون له تأثير قوي على الجانب اللوجستي. فإذا كان ميناء طنجة المتوسطي يربط المغرب بأوروبا، فإن ميناء الداخلة الأطلسي سيربط المغرب ببيته الإفريقي وكذا أمريكا.
أنبوب الغاز المغرب نيجيريا، هو مشروع للاندماج الجهوي والإقلاع الاقتصادي المشترك، وتشجيع دينامية التنمية على الشريط الأطلسي. دون أن ننسى أنه سيشكل مصدراً مضموناً لتزويد الدول الأوروبية بالطاقة.
المبادرة الأطلسية الملكية، بغية توطيد الأمن والاستقرار والتنمية المشتركة مع 23 دولة إفريقية مطلة على المحيط الأطلسي، مع اقتراح تمكين دول الساحل من الولوج إلى المحيط الأطلسي. لأن مشاكل دول الساحل لا يمكن حلها بالمقاربة الأمنية والعسكرية فحسب، بل بالمقاربة التنموية أيضاً. هنا نجد الرؤية الملكية الحكيمة والمتبصرة لجلالة الملك نصره الله وأيده الذي يريد الخير لإفريقيا ككل.
“وهناك من يستغل قضية الصحراء للحصول على منفذ على المحيط الأطلسي. لهؤلاء نقول: نحن لا نرفض ذلك؛ والمغرب كما يعرف الجميع، اقترح مبادرة دولية، لتسهيل ولوج دول الساحل للمحيط الأطلسي، في إطار الشراكة والتعاون، وتحقيق التقدم المشترك، لكل شعوب المنطقة…” خطاب المسيرة الخضراء سنة 2024
الجهوية المتقدمة: رافعة أساسية لتنمية الأقاليم الجنوبية
كما أشرنا سابقاً، فإن المغرب استرجع إقليم وادي الذهب سنة 1979. في هذه الفترة بالذات، كان المغرب قد خاض تجربة الجهات الاقتصادية كنقطة انطلاقة للجهوية بالمغرب عبر ظهير 16 يونيو 1971. إلا أن الجهات كانت لا تعتبر جماعة محلية (une collectivité locale)، ولم يكن منصوص عليها لا في دستور 1962، ولا 1970، ولا 1972. بحيث جاء الإقرار الدستوري بها كجماعة محلية في دستور 1992، وأصبحت لها تمثيلية في مجلس المستشارين في دستور 1996. وبعد مرور سنة، صدر القانون 47.96 المنظم للجهات. لكن ما يمكن قوله عن هذه الفترة بالذات، هو أننا كنا أمام جهوية لا تزال في طور التأسيس.
مع دستور 2011، أصبحنا نتحدث عن الجهوية المتقدمة، الذي خصص لها باب كامل وهو الباب التاسع، والتي جاءت تتويجاً لعمل اللجنة الاستشارية التي عينها جلالة الملك حفظه الله ورعاه سنة 2010.
مع صدور القوانين التنظيمية للجماعات الترابية، لاسيما القانون التنظيمي 111.14 المتعلق بالجهات، أصبحنا أمام جهوية حقيقية، أمام مفهوم التدبير الحر، وأصبح للجهات اختصاصات ذاتية قوية، من قبيل إعداد برنامج التنمية الجهوية، والتصميم الجهوي لإعداد التراب، واختصاصات مشتركة مع الدولة وأخرى منقولة من طرف هذه الأخيرة. بحيث كل هذا ساهم في إنجاح النموذج التنموي بالأقاليم الجنوبية.
دون أن ننسى نقطة مهمة، وهي تدعيم ورش الجهوية المتقدمة باللاتمركز الإداري. فنجاحها رهين به، وهذا ما أكد عليه جلالة الملك في خطاب المسيرة الخضراء سنة 2008. بحيث صدر المرسوم 2.17.618 بمثابة الميثاق الوطني للاتمركز الإداري، الذي يعتبر دعامة أساسية لإنجاح مسلسل اللامركزية الإدارية في شقيها الترابي والمرفقي.
الدعم الدولي المتزايد للأقاليم الجنوبية: القنصليات نموذجاً
أصبحت العديد من الدول تدعم مبادرة الحكم الذاتي التي تقدم بها المغرب سنة 2007. ومنذ سنة 2019 إلى اليوم، أصبح هناك توجه جديد يتمثل في دبلوماسية القنصليات عبر فتح القنصليات بكل من العيون والداخلة. هذه السياسة تتماشى مع القانون الدولي أولاً، لاسيما اتفاقية فيينا للعلاقات القنصلية، وتمثل تعبيراً واضحاً عن دعم سيادة المغرب على صحرائه. بل أكثر من ذلك، أنها ستزيد من نسبة الاستثمارات الأجنبية المباشرة في الأقاليم الجنوبية.
إن الأقاليم الجنوبية، وبالأخص جهة الداخلة وادي الذهب، أصبحت تعرف زخماً كبيراً من الاستثمارات الأجنبية المباشرة بفضل المناخ المحفز والمؤهلات التي تزخر بها المنطقة. فعلى الصعيد المؤسساتي، تعتبر المراكز الجهوية للاستثمار المخاطب الأول للمستثمرين، والتي أُحدثت بموجب الرسالة الملكية السامية الموجهة للوزير الأول سنة 2002، وأصبح لها قانون خاص بها وهو القانون 47.18. دون أن ننسى الإطار التشريعي، القانون الإطار 03.22 المتعلق بميثاق الاستثمار. كل هذا مكن المغرب من أن يصبح الوجهة المفضلة للمستثمرين، مما انعكس بالإيجاب على نسبة النمو وعلى الجانب الاجتماعي بهذه الأقاليم.
خاتمة
إن الأقاليم الجنوبية (جهة الداخلة وادي الذهب نموذجاً)، أصبحت ذات إشعاع قاري ودولي، تحت القيادة الرشيدة والمتبصرة للمؤسسة الملكية. وأصبحت الأقاليم الجنوبية تنافس العواصم الكبرى في العالم.
إذا كان الملك الراحل الحسن الثاني طيب الله ثراه قاد مسيرة خضراء لتحرير الأقاليم الجنوبية من الاستعمار الإسباني، فإن جلالة الملك محمد السادس أسماه الله وأعز أمره قاد مسيرات تنموية في العهد الجديد، جعلت من الأقاليم الجنوبية رافعة للتنمية الاقتصادية والاجتماعية والثقافية والبيئية.
إن الرؤية الملكية السديدة استهدفت تقوية الجبهة الداخلية للأقاليم الجنوبية وكسب الدعم الدولي، مما نتج عنه إطلاق العديد من المشاريع الكبرى، وتدشين القنصليات، وجلب الاستثمارات. كل هذا عزز من الواجهة الأطلسية للصحراء المغربية.
المصدر: هسبريس