في حضن أمه، يرقد “يزن”، طفلٌ في الثانية من عمره، بجسد لا يشبه عمره ولا طفولته. لا تكاد ذراعه الهزيلة تتماسك حول عنقها، فيما تلتفّ هي عليه كما لو كانت تحاول أن تُبقيه على قيد الحياة بالدفء وحده، بعد أن عجز الحليب والدواء والطعام عن الوصول إليه.

الصورة التي التقطها مصوّر وكالة الأنباء الفرنسية (أ.ف.ب) عمر القطّاع في مخيم الشاطئ غرب مدينة غزة، لم تبقَ هناك؛ بل عبرت حدود السياسة وأزاحت حُجب الإنكار، لتصبح، ببلاغتها الصامتة، وثيقة اتهام للعالم بأسره.

ليس “يزن” حالة استثنائية. فالأرقام، الصادرة عن منظمات دولية ذات مصداقية، ترسم مشهدًا صحيًا قاتمًا. منظمة الصحة العالمية تحذّر من أن “جزءًا كبيرًا من سكان غزة يتضوّرون جوعًا”، وتصف المشهد بأنه “مجاعة جماعية من صنع الإنسان”. الأطفال، الذين يُفترض أن تكون مناعتهم في طور البناء، يموتون اليوم من نقص الحليب، فيما تشير بيانات الأمم المتحدة إلى أن ثلث السكان لم يتناولوا طعامًا ليومين متتاليين على الأقل.

في أقسام الطوارئ بمستشفيات خان يونس ورفح والشفاء، تُسجَّل حالات سوء تغذية حاد، بعضها لأطفال لا تتجاوز أوزانهم سبعة كيلوغرامات. العشرات توفوا بالفعل، والمئات مهدّدون. الأطباء أنفسهم يعانون من الدوار والجوع. الصحافيون المحليون لا يقوون على التنقّل. قوافل المساعدات، وإن وصلت، تُحاصَر، وتُستهدف أحيانًا، أو تُوزّع وفق أنظمة لا يمكن للمحتاجين الوصول إليها إلا عبر طرق محفوفة بالخطر.

ومع ذلك، تُصر الرواية الرسمية الإسرائيلية على نفي المجاعة. بل يذهب أحد وزراء الحكومة إلى القول إن إسرائيل “تسعى لطرد سكان غزة”، ويقارن الحرب هناك بالحرب العالمية الثانية حين لم “تُطعِم بريطانيا النازيين”، في تصريح أثار موجة إدانات، لكنه لم يُغيّر شيئًا في واقع الحصار. أما السلطات العسكرية فتمضي في تحميل حركة حماس، ثم الأمم المتحدة، ثم “الفوضى”، مسؤولية ما يحدث، بينما تبقى السيطرة على المعابر، وعلى عدد السعرات الحرارية المسموح بدخولها إلى القطاع، بيد إسرائيل وحدها.

لا شك في أن العدوان الإسرائيلي يستهدف سبل العيش، من طحين وأدوية وماء وكهرباء. الحرب جعلت من كل شيء نادرًا: الدواء، الوقود، وحتى الضوء. وكالة “ناسا”، عبر تحليلها للانبعاث الضوئي، وثّقت أن غزة أصبحت أكثر ظلامًا بسبعة عشر مرّة ليلًا مما كانت عليه قبل الحرب. إنها ليست فقط مدينة بلا كهرباء، بل بلا ضوء، وبلا حياة.

ما يزيد من حدة المأساة أن أدوات التجويع تُدار تحت غطاء خطاب أخلاقي مزدوج: العالم يتحدث عن حقوق الإنسان، العدالة، القيم، بينما يُحاصَر طفل وتُمنع عنه زجاجة الحليب لأنه فلسطيني، أو لأنه يعيش في غزة، أو لأن الحرب مستمرة. ليست هذه أخطاء ميدانية، بل سياسة مُحكمة توزّع المساعدات وفق خرائط عسكرية، وتتحكّم بطرق إيصالها، وتُطلق الرصاص على من يركض نحو شاحنة دقيق.

“يزن” لا يعرف شيئًا من ذلك. لا يدرك موقعه من النزاع، ولا أسباب الحصار، ولا اسم الوزير الذي برّر جوعه، ولا الجهة التي حمّلت مسؤولية موته لأمه أو للمقاومة أو لمجتمع دولي “عاجز”. هو فقط يجوع، ثم يضعف، ثم ينام أكثر مما ينبغي، في جسد لا يكاد يكبر.

هذه الصورة ليست صرخة وحسب، بل اختبارٌ حاسم لمفهوم الإنسانية. إنها لحظة مواجهة مع الذات: هل يمكن للعالم أن يرى طفلًا على حافة الموت جوعًا، ثم يستمر في التنديد والكلام عن “القلق البالغ”؟ هل تحولت المجاعة إلى أداة تفاوض؟ وهل بات أطفال غزة مجرد أوراق في لعبة المصالح والمساومات السياسية؟

في وجه كل ذلك، تبقى صورة “يزن” أقوى من الإنكار، وأوضح من أي تصريح. إنها الدليل الذي لا يحتاج إلى تعليق، ولا إلى مرافعة قانونية. ومن لا يهتزّ لها، فليس في قلبه حياة.

المصدر: هسبريس

شاركها.