لم يعد الخوف في المغرب مرتبطًا بالمرض في حدّ ذاته، بل بما قد يحدث بعد دخول المستشفى. ففي السنوات الأخيرة، تكررت بشكل مقلق حالات لمرضى دخلوا مؤسسات العلاج العمومي وهم في وضع صحي مستقر، ليغادروها جثامين، أو مصابين بعاهات مستديمة، دون تفسير واضح، ودون محاسبة حقيقية، ودون إنصاف لعائلات وجدت نفسها أمام صدمة الفقدان وصمت المؤسسات.
في هذا السياق، تفجّرت مؤخرًا حالة صادمة أعادت إلى الواجهة خطورة ما يحدث داخل بعض المؤسسات الصحية. فقد دخلت سيدة من مدينة تمارة، خلال هذا الأسبوع، إلى المستشفى العسكري بالرباط لتلقي أول حصة علاج من مرض كانت تعانيه، وغادرت المؤسسة الصحية في حالة مستقرة، بل وهي تحتفل مع عائلتها بنجاح الحصة العلاجية الأولى، في انتظار تحديد موعد الحصة الثانية. غير أن الأمور انقلبت في ظرف ساعات، بعدما بدأت يدها تنتفخ بشكل غير طبيعي مصحوبًا بآلام حادة، ما استدعى إعادتها بشكل مستعجل إلى نفس المستشفى.
التحاليل الطبية كشفت إصابتها بميكروب خطير يُرجَّح أنه التُقط في موضع الحقن أثناء تلقي العلاج، أي داخل فضاء يُفترض أن تتوفر فيه أعلى درجات التعقيم والأمان. وتبع ذلك قرار بإجراء عملية جراحية غير مبرمجة، قبل أن تتلقى عائلتها اتصالًا هاتفيًا مفاجئًا يُعلن وفاة المريضة أثناء العملية. هكذا أُغلق الملف بسرعة، وسُجّلت الوفاة ضمن خانة “القضاء والقدر”، دون إعلان نتائج تحقيق، ودون توضيح للرأي العام، ودون مساءلة ظاهرة، لتُضاف هذه الواقعة إلى سلسلة مؤلمة من الحالات التي تدخل فيها المستشفى ماشية وتخرج منه محمولة.
عدوى داخل فضاءات يفترض أن تكون آمنة
من أخطر ما يكشفه هذا الواقع هو تسجيل إصابات بعدوى خطيرة داخل المستشفيات نفسها، سواء أثناء العمليات الجراحية أو عبر الحقن أو القسطرة أو الإقامة الطويلة. وهو ما يطرح تساؤلات جدية حول شروط التعقيم، ومراقبة البروتوكولات الصحية، وتوفر المواد الأساسية، ومدى احترام معايير السلامة الطبية.
حين يلتقط المريض ميكروبًا قاتلًا داخل مؤسسة علاجية، فإن الأمر لا يتعلق بالحظ السيئ، بل بخلل بنيوي في منظومة يفترض أن تحمي الحياة لا أن تهددها.
الأخطر من الأخطاء الطبية نفسها هو غياب المساءلة. نادرًا ما نسمع عن تحقيق شفاف، أو تقرير معلن، أو عقوبات واضحة في حق المسؤولين عن الإهمال أو التقصير. وفي كثير من الحالات، تُترك العائلات وحيدة، تصارع الألم، وتُجبر على الصمت تحت وطأة التعقيد الإداري أو الخوف أو ضعف الإمكانيات.
هذا الغياب شبه التام للمحاسبة خلق شعورًا عامًا بانعدام العدالة الصحية، ورسّخ قناعة لدى المواطن بأن حياة الفقير أقل قيمة، وأن المستشفى العمومي فضاء بلا رقابة حقيقية.
إن وزارة الصحة، بموجب القوانين الجاري بها العمل، مسؤولة بشكل مباشر عن سلامة المرضى، وجودة الخدمات، ومراقبة المؤسسات الصحية العمومية، وضمان كرامة المواطن داخل فضاءات العلاج. كما أن التوجيهات الملكية السامية كانت واضحة ومتكررة في التأكيد على:
حق المواطن في العلاج الآمن
ضرورة إصلاح المنظومة الصحية
ربط المسؤولية بالمحاسبة
جعل صحة المواطن أولوية وطنية
غير أن الهوة بين هذه التوجيهات والواقع اليومي داخل كثير من المستشفيات لا تزال واسعة، وهو ما يطرح سؤال الإرادة والتنفيذ والحكامة.
في مقابل هذا التدهور في القطاع العمومي، يضطر من يملك القدرة المادية إلى اللجوء للقطاع الصحي الخاص، فيما يبقى المواطن البسيط رهينًا لمؤسسات تعاني نقص الموارد، ضغط الأطر، ضعف التجهيز، وسوء التدبير. وهكذا يتحول الحق الدستوري في الصحة إلى امتياز طبقي، ويصبح المرض امتحانًا قاسيًا للفقراء قبل أن يكون معاناة جسدية.
إلى متى يستمر هذا النزيف الصامت؟
السؤال اليوم لم يعد: ما الذي حدث؟
بل: إلى متى سيستمر هذا النزيف الصامت داخل مستشفيات يفترض أن تنقذ الأرواح؟
وكم من وفاة أخرى يجب أن تُسجَّل، وكم من أسرة يجب أن تُفجع، حتى ندرك أن الخلل ليس في الأقدار، بل في منظومة تحتاج إلى إصلاح عاجل وشجاع؟
الإصلاح ليس خيارًا… بل ضرورة وطنية
إن إنقاذ الصحة العمومية في المغرب يمر حتمًا عبر:
مراقبة صارمة لشروط التعقيم والسلامة
فتح تحقيقات شفافة في حالات الوفاة المشبوهة
تفعيل المحاسبة دون تردد
حماية المرضى وعائلاتهم قانونيًا
إعادة الاعتبار للمستشفى العمومي كفضاء آمن
فصحة المواطن ليست ملفًا ثانويًا، ولا رقمًا في تقارير، بل حق أساسي وكرامة إنسانية. والدولة تُقاس، في النهاية، بمدى قدرتها على حماية أضعف مواطنيها، لا بارتفاع الإسمنت ولا بكثرة المشاريع.
عبد الله مشنون
كاتب صحفي ومحلل سياسي مقيم في إيطاليا
مهتم بالشؤون العربية، قضايا الهجرة والاسلام.
المصدر: العمق المغربي
