ورقة بحثية ترصد التأثير المتبادل والاندماج بين المسلمين واليهود في المغرب
أكدت ورقة بحثية منشورة ضمن العدد الأخير من مجلة “الدراسات الثقافية واللغوية والفنية”، التي تصدر عن “المركز الديمقراطي العربي” في ألمانيا، أن “التعايش الديني بين المسلمين واليهود في المغرب يعكس تاريخا طويلا من الاحترام والتعايش السلمي امتد لآلاف السنين بين الجاليات المسلمة واليهودية؛ فمنذ الفتح الإسلامي شهد اليهود في المغرب حقوقا دينية وثقافية محفوظة ومنصوصة عليها في الشريعة الإسلامية. وخلال العصور، نمت المجتمعات اليهودية في المغرب وساهمت في الحياة الاقتصادية والثقافية بشكل ملحوظ”.
وأوضحت الورقة البحثية، المعنونة بـ”المسلمون واليهود في المغرب.. ماض مشترك وتأثير متبادل”، لكاتبها سعيد الأشعري، باحث في الثقافة والتواصل، أن “التعايش الإسلامي اليهودي في المغرب يعد نموذجا للتعايش الديني السلمي والتعاون الثقافي بين الديانات المختلفة؛ فقد عرفت المجتمعات اليهودية والمسلمة في المغرب، منذ ماض سحيق، علاقات متينة ومتبادلة، حيث عاشوا جنبا إلى جنب بأمان واحترام”، مسجلة في هذا الصدد أن “اليهودية المغربية تمتاز بتمازجها الفريد بين الثقافة اليهودية والعناصر الثقافية العربية والأمازيغية”.
وحول تجليات هذا التعايش، أشار الأشعري إلى “التعاون بين المسلمين واليهود في المغرب في مجالات متعددة، بما في ذلك الفعاليات الدينية والاجتماعية والثقافية، وكانت هناك نماذج للتعاون الوثيق بين الجاليات المسلمة واليهودية في بناء المدارس والمستشفيات والمؤسسات الخيرية؛ مما أسهم في تعزيز الروابط الاجتماعية والتضامن بين أفراد المجتمع”، مؤكدا أن “التعايش الإسلامي اليهودي في المغرب يعكس مثالا إيجابيا على كيفية تعايش الأديان والثقافات، ويظهر القدرة على بناء مجتمعات متعددة الثقافات في إطار من التسامح والتعايش”.
وفي استعراضها لتاريخ الوجود اليهودي في المغرب، سجلت الوثيقة ذاتها أن “وجود اليهود في المغرب يعود إلى آلاف السنين، عرفت خلالها علاقة اليهود بالمسلمين مدا وجزرا بين التعايش والنزاع. وقد أدى هذا العامل التاريخي إلى ظهور ثقافة يهودية مغربية ما زال تأثيرها جليا على المجتمع المغربي اليوم”، مشيرة إلى أن “وضع اليهود، بعد وصول الإسلام إلى المغرب، تأرجح بين التضييق وإطلاق الحريات”.
وتابعت: “في نهاية القرن السابع وصل الفتح الإسلامي إلى المغرب، وشهدت تلك البلاد مجيء عدد كبير من اليهود اضطروا في ذلك الحين إلى العيش كأقلية دينية، أو كما عرفوا بأهل الذمة”، مضيفة: “في عام 1146، تدهور وضع اليهود والمسيحيين في المغرب عندما جاءت سلالة الموحدين إلى السلطة وألغت الجزية وطالبت باعتناق اليهود للديانة الإسلامية أو مواجهة القتل،.. لكن عندما وصلت سلالة المرينيين الذين ينتسبون إلى قبائل زناتة الأمازيغية، جرى تخفيف القيود الدينية وسمح لليهود مرة أخرى بالعيش علنا كيهود”.
وأشارت الورقة البحثية، التي عرضت مختلف المراحل التي مر التأسيس للنموذج الحالي من تعايش المسلمين واليهود في المغرب، إلى “طرد اليهود من إسبانيا والبرتغال في عام 1492، إذ فر الآلاف منهم إلى الحارات اليهودية المغربية المعروفة باسم “الملاح” وإلى المناطق والأحياء اليهودية في المدن المخصصة لهم من لدن السلطان”.
في السياق نفسه لفت كاتب الورقة إلى أن “المسلمين المحليين لم يرحبوا باللاجئين من اليهود الذين وصلوا إلى البلاد عقب محاكم التفتيش الإسبانية، وهذا ما أسفر عن تعرض الكثيرين منهم إلى العنف والفقر والتشرد.. مع استقلال المغرب، استقرت وضعيتهم وتمت معاملتهم كأهل الذمة؛ وهي وضعية أطرت سلوك المسلمين إزاءهم، فكان موقفهم قوامه عدم الاعتداء والتعامل بالمعروف وعدم التدخل في الشؤون الداخلية لليهود؛ دينية أو قانونية أو وقفية أو قضائية”.
وعن وضعيتهم بعد استقلال المغرب عن المستعمر الأجنبي، أورد الأشعري أن “العديد من اليهود هاجروا عقب استقلال المغرب إلى إسرائيل على الرغم من الضمانات التي قدمتها السلطان، إذ “إنه حين استقل المغرب أصبحت هجرة اليهود غير شرعية، وبدأت إسرائيل تهربهم خفية، رغم محاولة الملك محمد الخامس إقناعهم بأن اليهود يتمتعون بالأمن والوفرة، وعين لهذا السبب وزيرا يهوديا في حكومته، ورغم ذلك فقد هاجر حوالي 30 ألف إلى إسرائيل في أواخر الخمسينيات بشكل غير شرعي خلافا لرغبة الحكومة المغربية.. وبالإجمال، هاجر إلى إسرائيل، على مر السنين، حوالي 250 ألف يهودي مغربي”.
وأكدت الوثيقة عينها أن “أغلب اليهود يقرون بأن المغرب استقبلهم وآواهم بمنطق متسامح”، مشددة على أن “المغرب يعتبر نموذجا للتعايش والسلم الاجتماعي، إذ إن التعايش بين الأديان في المغرب ليس وليد اللحظة؛ بل يعود إلى أزمنة غابرة وتعاقب حضارات عديدة، كالحضارة الإغريقية والرومانية والإسلامية، الأمر الذي يفسر وجود دُور عبادة مختلفة ومتعددة في جميع مدن المغرب”.
وخلصت الورقة البحثية إلى أن “التعايش بين اليهود والمسلمين كان السمة الغالبة على العلاقة بينهم في المغرب”، مؤكدة أن “هذا التعايش أسفر عن اندماج اليهود كجزء لا يتجزأ من النسيج الاجتماعي المغربي؛ مما جعلهم مكونا أساسيا في المجتمع، حيث أثر هذا الاندماج بشكل إيجابي على العديد من جوانب الحياة في المغرب، إذ أدى اليهود دورا حيويا في مجالات متنوعة، لاسيما في المعاملات التجارية والمالية، وكانت مساهماتهم ملحوظة في تطوير التجارة والنظام المالي، حيث جلبوا خبراتهم ومعارفهم وأساليبهم الخاصة؛ مما أدى إلى ازدهار هذه المجالات خلال فترة استقرارهم في البلاد”.
المصدر: هسبريس