يشكل استمرار هيمنة التعاملات النقدية (الكاش) تحديا كبيرا على جزء واسع من النشاط الاقتصادي في المملكة. فبعيدا عن كونه مجرد وسيلة تقليدية للدفع، بات يُنظر إلى “عبء الكاش” كعقبة حقيقية تعيق مسار التنمية الشاملة والشفافية المالية التي تطمح إليها البلاد.
ويرى العديد من المتخصصين أن الاعتماد المفرط على النقود الورقية والمعدنية له تداعيات متعددة المستويات على الاقتصاد المغربي. ولعل أبرزها هو تغذية القطاع غير المهيكل، الذي يمثل نسبة كبيرة من النشاط الاقتصادي ويهرب من قبضة النظام الضريبي والرقابي.
فالمعاملات النقدية المباشرة يصعب تتبعها وتسجيلها، مما يسهل التهرب من دفع الضرائب والرسوم، ويحرم خزينة الدولة من موارد مالية ضخمة يمكن استثمارها في البنى التحتية والخدمات العامة والمشاريع التنموية. كشيرين إلى أن هذا التهرب الضريبي يضع عبئا أكبر على كاهل القطاع المهيكل والملتزم بالضوابط، ويؤدي إلى تشويه المنافسة.
علاوة على ذلك، يشكل “الكاش” بيئة مواتية لانتشار الفساد والمعاملات غير المشروعة. فسهولة إخفاء مصدر الأموال وتنقلها نقدا تجعلها الأداة المفضلة للرشوة وغسيل الأموال وتمويل الأنشطة غير القانونية.
ويؤكد متخصصون أن مكافحة هذه الظواهر تتطلب درجة عالية من الشفافية في التدفقات المالية، وهو ما يتنافى تماما مع طبيعة التعامل النقدي التي تفتقر إلى أي أثر رقمي أو سجل واضح.
وفي هذا السياق، أكد المحلل الاقتصادي، محمد جدري، أن حجم تداول النقود الورقية والمعدنية (الكاش) في الاقتصاد الوطني وصل إلى مستويات قياسية، مشيرا إلى أن هذا الأمر يشكل “عبئا” حقيقيا على مسار التنمية الاقتصادية في المملكة ويفتح الباب أمام التهرب الضريبي ومخاطر غسيل الأموال.
وقال جدري، في تصريح لجريدة “العمق”، إن “حجم تداول الكاش في الاقتصاد الوطني وصل لمستويات قياسية، حيث نتحدث اليوم عن قرابة 400 إلى 420 مليار درهم يتم استعمالها نقدا”. واعتبر أن هذا الحجم المرتفع “يُضيّع على المملكة المغربية مجموعة من نقاط القوة”.
وأوضح المحلل الاقتصادي أن من أبرز التداعيات السلبية لهيمنة “الكاش” هو “ضياع مجموعة من المداخل الضريبية التي يمكن أن تكون على شكل ضريبة على الدخل أو ضريبة على الشركات أو ضريبة على القيمة المضافة أو مجموعة من الرسوم الجمركية أو الأخرى”.
وبرر ذلك بأن التعامل النقدي “لا تكون عندنا فيه مسار تتبع وبالتالي لا نكون ضامنين لهذه المداخيل”.
وأضاف جدري أن الاستعمال الأساسي للكاش يتم بشكل كبير في القطاع غير المهيكل، وهو ما “يُنافس” القطاع المنظم الذي يؤدي الضرائب والتحملات الاجتماعية.
كما نبه الخبير الاقتصادي ذاته إلى أن استمرار تداول الكاش بهذه النسبة الكبيرة يتعارض مع التزامات المغرب الدولية. وقال في هذا الصدد: “المغرب لديه مجموعة من الالتزامات مع مجموعة العمل المالي في كل ما يتعلق بمحاربة تبييض الأموال وتمويل الإرهاب وتجارة الأسلحة”.
وشدد على أنه “كلما كان استعمال الكاش بطريقة كبيرة، كلما كان هناك خطر على الاقتصاد الوطني فيما يتعلق بتبييض الأموال أو تمويل الإرهاب”.
وبناء على هذه التحديات، يرى محمد جدري أن المملكة المغربية “يجب أن تسير في اتجاه كل ما يتعلق بمحاولة إدماج القطاع غير المهيكل” ليصبح في القطاع المنظم. ودعا إلى “تشجيع هؤلاء الناس بمنحهم مجموعة من الحوافز الضريبية”.
واعتبر أن “الورقة الاجتماعية يمكن أن تكون مساعدة لمجموعة من الناس لينتقلوا من وحدات غير منظمة إلى وحدات مهيكلة ومنظمة تؤدي ضرائبها وتحملاتها الاجتماعية وتشتغل بدون أن تؤثر على تنافسية المقاولات الأخرى”.
وشدد المتحدث أيضا على ضرورة “الذهاب إلى أبعد مدى” في تطوير وسائل الأداء الإلكتروني، بما في ذلك الأداء عبر الهاتف، مستشهدا بالتجربة الكينية التي وصفها بأنها “رائدة على المستوى العالمي” في هذا المجال.
وبرر هذا التوجه بضعف نسبة “التمويل البنكي في المغرب، التي “لا تتجاوز حوالي 15 مليون حساب بنكي”، معتبرا أنه “يمكن أن نتجاوز هذا الرقم على الأقل إلى 20 مليون حساب بنكي”.
ولتشجيع هذا التحول، دعا المحلل الاقتصادي إلى “مساعدة صغار التجار وصغار مقدمي الخدمات عن طريق منحهم آليات الأداء الإلكتروني لتمكينهم من استعمال الأداء الإلكتروني. كما طالب بـ”تخفيض نسب الأداء” المرتبطة بهذه المعاملات، والتي وصفها بأنها “لا تزال مرتفعة بعض الشيء”.
وخلص محمد جدري إلى التأكيد على أنه “لا يمكننا أن نقبل بحجم الكاش الموجود اليوم بهذه الطريقة الكبيرة جدا”، لما له من “أضرار على الاقتصاد الوطني”.
ويرى أن معالجة هذا الإشكال ستمكن من استغلال الإمكانات الكامنة في القطاع المنظم والمقاولات الصغيرة، والتي يمكنها “أن تخلق الثروة والقيمة المضافة، وأن تخلق مجموعة من مناصب الشغل بالنسبة للشباب المغاربة”.
المصدر: العمق المغربي