هل كتبنا تاريخنا الأدبي؟
1
من قبيل تحصيل الحاصل القول إن النص الأدبي لا ينفصل عن مفهوم الثقافة، والقضايا التي أثيرت بهذا الخصوص منذ أواخر العشرينيات وأوائل الثلاثينيات من القرن الماضي فيما خلفته لنا الحصيلة الأدبية بالمغرب خير دليل على ذلك. لقد كان لارتباط مفهوم الثقافة بالحركة الوطنية وبالنضال السياسي أكبر الأثر في تمثل تصوّر للثقافة مقترن بهوية للشخصية المغربية بصرف النظر عن المؤثرات المشرقية أو الغربية. فقد شكل الاهتمام بخصوصية الثقافة المغربية مدخلا لتعيين الملمح الجمالي للنص الأدبي آنئذ؛ ورغم ذلك، ظل واقع الإبداع والنقد الأدبيين يعرف صعوبات لعلّ أهمها:
محدودية التراكم الأدبي، وهي محدودية تجعل من الصعب تحديد مفهوم ما للأدب والنقد.
ارتهان الظاهرة الإبداعية بسؤال التاريخ والشرط الموضوعي للمجتمع على اختلاف الحقب والفترات والمرجعيات (التراث، المشرق، الغرب)، وكأن تعدد المصدر الثقافي كان سببا في تغييب أسئلة جوهرية متحكمة في إنتاج نظرية أدبية أو نقدية وبيان سياقاتها الثقافية: أسئلة الهوية بما هي قادرة على خلق ثقافة وطنية ذات خصوصية على الصعيد الأدبي والفكري.
تبرز انطلاقا مما سبق ملاحظة أولية:
هناك قضية نظرية عامة تخص علاقة الإبداع الأدبي بالنقد. لا يقدّم النقد معرفته إلا في ضوء نصوص إبداعية: هل كان حقلنا الثقافي ينتج أفكارا نقدية مواكبة لما يتم إنتاجه من نصوص إبداعية؟
أفترض أن أي تفكير في تاريخ الإبداع والنقد الأدبين بالمغرب يستدعي تركيز التأمل حول طبيعة القيم الفكرية التي فتحت تصورات الأديب والناقد على جدوى الأدب وجدوى النقد. لبيان ذلك أتخذ من النصين المواليين إطارا للتوضيح:
2
محمد بن عبد السلام الفاسي: أسباب ركود الأدب في بلادنا المنشور ب (مجلة السلام، 7 أبريل 1934).
عبد الكريم الفلوس: الرقي الأدبي والمنشور ب (رسالة المغرب، العدد 31 السنة 26 / 8 شتنبر 1949).
نشر محمد بن عبد السلام الفاسي نصّه: ” أسباب ركود الأدب في بلادنا ” بمجلة ” السلام ” في 7 أبريل 1934، بينما نشر عبد الكريم الفلوس نصّه: ” الرقي الأدبي ” بمجلة ” رسالة المغرب ” العدد 31، السنة 8، في 26 شتنبر 1949. يثير النصان معا جملة من الأسئلة التي تخصّ مفهوم الأدب، وبعض المرجعيات الثقافية المتحكمة في بناء تصوّر للكتابة الأدبية كان يراعي الأوضاع الاجتماعية والثقافية المصاحبة. معنى ذلك، أن الحديث عن الأدب يفترض سواء تعلق الأمر بمرحلة أواخر الثلاثينيات أو أواخر الأربعينيات قياسات نظرية وتطبيقية محددة تميّزها مفاهيم خاصة تقترب تارة من تعريف الأدب، وتنفتح تارة أخرى على تأمل وظيفة الأدب والغاية منه. تعكس القراءة المتأنية لنصيْ الفاسي والفلوس تصوّرا للأدب وللدراسة الأدبية مشروطين بحقبة ثقافية واجتماعية وسياسية اعتبر، في ضوئها الأدب أحد أشكال الخطاب القادرة على تحديد خلفية لموضوعها وفق عُرف ثقافي أسهم في بيان ” تصوّر مثال ” اكتسب مصداقيته من طبيعة تقاليد التعبير وأنواعه. يتضح من هذا، أن الاهتمام بفهم تصوّر الأدب كان يستجيب لنسق فكري يراعي مبدأ المقارنة في إيجاد صيرورة تاريخية تتحكم في إنتاج الفعل الأدبي والثقافي.
يرتبط مفهوم الأدب، في العادة، بتتابع تاريخي لا يغفل دور القارئ وسنن القراءة في تشييد المعرفة الأدبية. أن أختار للتمثيل على هذه الآراء بنصي الفاسي والفلوس معناه الاقتراب من فهم طبيعة الجدل الذي ساد بخصوص مكانة الأدب وحدوده الفنية والجمالية لدى الأديب المغربي خلال حقبة معلومة من زمننا الأدبي والنقدي لا زالت آثارها جلية إلى اليوم.
من هذا المنظور، يلفت كل من نص الفاسي والفلوس جملة من القضايا التي لا تدرج الخطاب الأدبي ضمن فرع من فروع المعرفة فحسب، بل تصله أيضا بمختلف الأفكار المتحكمة في إنتاج مفهوم الأدب سواء في علاقته ب ” الآداب العربية العريقة “، أو في انفتاحه على ” الآداب الحديثة”، كل ذلك من أجل الإسهام في ابتكار ” أدب عربي عصري”.
هكذا، تتحدد معايير تصوّر الخطاب الأدبي عند الفاسي والفلوس من خلال:
النظر إلى وظيفة وتداولية التعبير الأدبي.
تقديم العوامل الاجتماعية والثقافية الفاعلة في تكوين النص الأدبي.
إيجاد إطار نقدي يغدو ضمنه الأدب عنصرا من عناصر نسق ثقافي ومعرفي عام.
بهذا المعنى، يعتني التأليف الأدبي عند الفاسي والفلوس بجعل ” الكتابة ” الأدبية اهتماما مركزيا في التأمل والتصنيف؛ ولأنها تستمدّ خصوصياتها من علاقتها بما يحيط بها، فإنها تتوق لاستكناه تعريف معياري للأدب ونقده.
يصبح بالإمكان، في اقتران بما سلف، تحديد درجة ” ركود ” الأدب ودرجة ” رقيه”، وكذا استدعاء مختلف الأشكال والكتابات المبتكرة أو الموروثة. إن التصورات المقترنة بركود الأدب لدى الفاسي وبرُقيّه لدى الفلوس، لا تفصل أسئلة الكتابة عن جوهر العلاقة بين الإبداع والمجتمع ودورها في خلق ذوق فني سائد أو مبتكر. معنى ذلك، أنه من غير الممكن التفكير في ركود الأدب أو رقيه بمعزل عن أفق هويته: إنها هوية ثقافية أكثر مما هي هوية مؤسسية. ولأن مقاييس الركود والرقي تظلّ غير مستقرة، فإنها في أغلب الأحيان صورة لاستيلاب فني لا يراهن إلا على جدوى الخلق، والإبداع، وحرية الكاتب، والكتابة.
يتضمّن نص الفاسي والفلوس توجهات عامة للعديد من المفاهيم: الكتابة، المعرفة، النفس، الفن، العلم، النهضة، التعليم، اللغة، الثقافة، البيئة، الحرية … وهي مفاهيم ذات كفاية مباشرة في تصوّر موضوع الأدب وحقيقته.
أستطيع القول، إن تفكير الفاسي والفلوس انصبّ على تصوّر الأدب بوصفه موضوعا عميق الصلة بالإطار الاجتماعي الذي يشرطُه. وهذا أمر بالغ الأهمية لأنه سمح لهما بإمكانية تقديم تقسيمات أساسها نوع من المقارنة التي تتحكم في تصنيف الأدب وقراءته اعتمادا على هذه المرجعية أو تلك (عرب/غرب)، كما أنها مقارنة تندرج عموما في صلب إشكالية النهضة على الصعيد الأدبي والثقافي العام، وهذا ما عبر عنه الفاسي بقوله:
” يكاد الأدب عند الغرب يقابل إجادة الكتابة في أي فرع من فروع المعرفة، بينما هو عند العرب ما يرقي الخلق ويهذب النفس “.
وما يعزز مبررات المقارنة الاتجاه نحو إثبات جوهر ” الحقيقة العلمية ” و ” الحقيقة الفنية ” وأدوارهما في استحضار عمليات الفهم والإدراك والخلق، يقول أيضا بهذا الخصوص:
” والحقيقة العلمية لا تحتاج إلى أكثر من ملكة الفهم. بينما تحتاج الحقيقة الفنية إلى التفوّق والشعور. الأدب إدراكه عسير وخلقه أعسر من إدراكه “.
3
لهذه الاعتبارات أهميتها في سياق فهم المرجعية الخاصة بموضوع الأدب. وهي اعتبارات ستمكّن محمد بن عبد السلام الفاسي من تحديد أسباب اعتبارية جعلها في مقدمة الأسباب الدالة على فتور الحركة الأدبية ببلادنا: ذيوع الأمية وعدم انتشار التعليم؛ وعدم الانتباه للفروقات القائمة بين لغة الأدب ولغة الكلام. وهذا ما يؤدي، في الغالب الأعمّ إلى قلة قراء الأدب، يضاف إلى ذلك عدم انتشار وسائل النشر.
في اقتران بما سلف، يتبيّن أن عبد الكريم الفلوس يعلي من شأن فرضية عامة مفادها: تلك الحاجة الملحة لرقي الأدب حتى يصبح موافقا للعصر. ولذلك، نجده يدافع على دور البيئة في إنجاب الكتاب والمبدعين، وما دامت الثقافة أبرز مظهر من مظاهر الرقي، فإن تقدّم الأدب لا محالة تابع لرقي الأمم. من هنا يكتسي التصنيف الذي يقترحه عبد الكريم الفلوس للثقافة الأدبية لدى الشعوب العربية قيمته حين يميّز بين: الآداب العربية العتيقة، والآداب الأجنبية، والآداب العربية العصرية. وإذا كان ميله للطائفة الثالثة واضحا، فلأنها طائفة تدرس قواعد اللغة العربية دراسة صحيحة وتطلع على مؤلفاتها القديمة وذخائرها المفيدة، من غير أن تغفل دراسة الآداب الغربية، والاطلاع على ما أنتجه كتابها وأدباؤها من روائع.
4
خلّف لنا تاريخ الأدب والنقد العديد من المسامرات الأدبية، وهي إنتاجات نقدية مهمّة من أجل دراسة تاريخ الأدب المغربي؛ إنها نصوص تستثمر العديد من الآراء والأفكار النقدية من أبرزها: مسامـرة تاريخ الشعر والشعراء بفاس لأحمد النميشي ( 1925 ) ؛ واهتمّ الأديب المغربي بالتأليف في جنس التراجم كما هو الأمر عند محمد غريط في فواصل الجمان في أنباء وزراء وكتاب الزمان ( 1927)، أو لدى عباس بن إبراهيم المراكشي في الإعلام بمن حلّ بمراكش من الأعلام ( 1936 )، وعبد الله كنون في أمراؤنا الشعراء ( 1943 ) والمختار السوسي في سوس العالمة ( 1960 )، إذ بالإمكان اعتبار هذه المسامرات الأدبية والتراجم والتحليلات النقدية المبكرة، أشكالا من الخطاب ضمّنها أصحابها آراءهم في الأدب ونقده، ومكّنتهم في الآن ذاته من كتابة تاريخ للنصوص وللمؤلفين . لذلك، تتضمّن المسامرات الأدبية وتراجم الأعلام حساّ نقديا يمنح لتصنيف النصوص وبناء أغراضها واتجاهاتها الفنية موقعا محوريا في بيان الغاية من تأليفها، وجدواها بالنسبة لغنى الذاكرة الأدبية الثقافية لمغرب سنوات العشرينيات وصعدا.
المصدر: هسبريس