في مؤشر ذي دلالة عميقة على التحولات الجيوسياسية المحيطة بملف الصحراء المغربية، ولأول مرة منذ عقود، تبنت وكالة “سبوتنيك” الروسية الخطاب الدبلوماسي المغربي في وصفها لـ”جبهة البوليساريو”، حيث استخدمت مصطلح “الجبهة الانفصالية” في تقرير تحليلي لها، وهو تحول لغوي وسياسي يمثل اختراقا دبلوماسيا مغربيا لافتا في أحد أهم المنابر الإعلامية لدولة عظمى طالما اتسم موقفها بالحياد الحذر.
ويأتي هذا التطور في سياق يكرس سلسلة الانتصارات الدبلوماسية التي حققتها الرباط، والتي أدت إلى عزلة متزايدة للمشروع الانفصالي وداعمته الجزائر. التقرير الذي نشرته “سبوتنيك” لا يكتفي بهذا التوصيف غير المسبوق فحسب، بل يذهب أبعد من ذلك في تبني تحليل ينسجم إلى حد كبير مع الرؤية المغربية للوضع الميداني، حيث ربط التقرير بين زيادة التوتر الأخير وبين الإجراءات الموريتانية بإغلاق منطقة “البريقة” الحدودية، التي كانت تمثل شريانا حيويا لتسلل عناصر البوليساريو إلى المنطقة العازلة، وهو ما وصفه الخبير المغربي أحمد نور الدين في حديثه للوكالة بأنه إجراء “يؤدي إلى خنق الجبهة الانفصالية”.
وفيما يعكس ضعفا متزايدا للمشروع الانفصالي، استعرض التقرير الروسي كيف أن الخيار العسكري لم يعد مطروحا أمام البوليساريو، بعد نجاح المغرب في تأمين كامل ترابه بالجدار الأمني واستخدام التكنولوجيا الحديثة كطائرات الدرون للمراقبة، مما جعل أي اختراق أمرا مستحيلا. كما أشار إلى أن هذا الواقع دفع العديد من قادة الجبهة التاريخيين إلى إدراك حقيقة الأمر والعودة إلى وطنهم الأم، المغرب، وهو ما يفرغ الطرح الانفصالي من أي شرعية ميدانية أو سياسية.
وعلى الرغم من أن “سبوتنيك” منحت مساحة للرأي الجزائري المتمثل في تصريحات البرلماني علي ربيج، إلا أن سياق التقرير العام، واستخدامه لمصطلح “الجبهة الانفصالية”، وتركيزه على نجاحات المغرب الميدانية والدبلوماسية، يضع الطرح الجزائري في موقع الدفاع ومحاولة تبرير موقف أصبح متجاوزا بفعل الحقائق على الأرض والتحولات في المواقف الدولية.
وفي هذا السياق، اعتبر الخبير في ملف الصحراء أحمد نور الدين أن المقال الأخير الذي نشرته وكالة “سبوتنيك” الروسية، والذي وصف جبهة البوليساريو بـ”الجبهة الانفصالية”، لا يمكن قراءته كحدث عابر، بل كإشارة مدروسة قد تمثل بداية تحول استراتيجي في موقف موسكو من النزاع. وشدد في تصريح خص به جريدة “العمق” على أن وكالات الأنباء الرسمية في كل البلدان لا تعمل بمعزل عن التوجهات السياسية للدولة، بل تعتبر امتدادا لسياساتها الخارجية، مما يجعل من تبني مصطلحات داعمة للطرح المغربي رسالة سياسية محسوبة أرسلت من الكرملين.
وقال إن هذه الإشارة الإعلامية لا تأتي من فراغ، بل هي نتاج مباشر لسياق جيوسياسي ضاغط يعيشه الكرملين. فمع العزلة المتزايدة التي فرضتها العقوبات الغربية، والحاجة الملحة لتأمين شراكات اقتصادية واستراتيجية جديدة، تجد روسيا نفسها مضطرة لإعادة تقييم شبكة تحالفاتها. ففي ظل ضعف حلفائها التقليديين في الشرق الأوسط، تبحث موسكو بشكل عملي عن شركاء مستقرين وذوي وزن استراتيجي، وهو ما يفسر توجه الأنظار نحو المغرب.
وأشار الخبير في العلاقات الدولية إلى أنه في خضم هذا البحث عن حلفاء جدد، يبرز المغرب كشريك لا غنى عنه، فهو ليس مجرد شريك اقتصادي مهم، بل يطرح نفسه كمنصة لوجستية حيوية. فمشروع ميناء الناظور غرب المتوسط يوفر لروسيا فرصة إنشاء مخزون استراتيجي من الحبوب والطاقة لتأمين صادراتها نحو إفريقيا، متجاوزة بذلك اضطرابات البحر الأسود والحصار الغربي. هذا الموقع الاستراتيجي كبوابة على الأطلسي والعمق الإفريقي، إلى جانب ما يتمتع به المغرب من استقرار سياسي ومصداقية دولية وتحالفات قوية، يجعله شريكا موثوقا قادرا على لعب أدوار معقدة.
وأوضح أن هذا التقارب المحتمل ليس وليد اللحظة، فالعلاقات المغربية الروسية اتسمت دائما بالبراغماتية، حتى في ذروة الحرب الباردة، حيث قامت موسكو بتزويد المغرب بذخائر عسكرية في وقت حساس. لكن الأهم من التاريخ هو المنطق الذي يفرضه الواقع الحالي، والذي يضع روسيا أمام معضلة حقيقية. فإذا كانت قد بررت ضمها لشبه جزيرة القرم عام 2014 بالروابط التاريخية، والتي كانت تابعة لدولة أوكرانيا، وهي ليست جمهورية وهمية بل هي دولة عضو في الأمم المتحدة، فبأي منطق يمكنها أن تعارض استرجاع المغرب لصحرائه عام 1975، وهو حق يستند إلى منطق تاريخي وقانوني أقدم وأكثر رسوخا؟
وخلص المتحدث بالقول إن هذه العوامل مجتمعة، من تزايد الدعم الدولي لمغربية الصحراء إلى حاجة روسيا الماسة لحلفاء أقوياء، بالإضافة إلى الحجة المنطقية التي تفرضها سابقة القرم، تجعل من الصعب رؤية مقال “سبوتنيك” كخطأ عابر. الأرجح أنه بالون اختبار مدروس، أو ربما الخطوة الأولى في تحول استراتيجي عميق. إنه ليس مجرد تغيير في المصطلحات، بل قد يكون فصلا جديدا في دبلوماسية الملف، تكتبه ضرورات الجغرافيا السياسية لا عواطف التاريخ.
المصدر: العمق المغربي