في وقت كان فيه العالم يتحدث عن طي صفحة تنظيم “الدولة الإسلامية” المشتهر بـ”داعش” بعد هزيمته العسكرية وسقوط “خلافته” المزعومة قبل ست سنوات، عادت راية التنظيم السوداء لتلوح مجددًا على أنقاض هجوم دموي هز أستراليا وأثار القلق العالمي.
ففي اعتداء غير مسبوق استهدف نهاية الأسبوع المنصرم حشداً من المشاركين في احتفال بعيد حانوكا اليهودي على شاطئ بوندي في سيدني، قُتل ما لا يقل عن 16 شخصاً، وأصيب العشرات، في هجوم تبين لاحقاً أنه يحمل بصمات فكر تنظيم “داعش”، رغم عدم وجود أي رابط مباشر مع قياداته.
الاعتداء، الذي يُعد الأسوأ في أستراليا منذ أكثر من 30 عاماً، لم يأتِ بمعزل عن سياق أوسع، بل يبدو جزءاً من نمط مقلق من الهجمات المنفذة أو المستوحاة من خطاب “داعش”، والذي عاد للظهور مؤخراً في دول مختلفة من العالم.
ويوم 13 دجنبر الجاري، عادت سوريا لتشهد حادثاً دموياً نسب إلى تنظيم “داعش”، حيث تعرضت قوات أميركية في تدمر لهجوم نفذه عنصر من قوات الأمن السورية، ما أسفر عن مقتل جنديين أميركيين ومترجم مدني. وقد أعلنت الحكومة السورية، بالتنسيق مع التحالف الدولي بقيادة الولايات المتحدة، عن حملة أمنية واسعة في البادية السورية لملاحقة خلايا التنظيم النائمة.
الهجوم، الذي اعتُبر الأعنف منذ عودة العلاقات بين واشنطن ودمشق أواخر العام الماضي، سلط الضوء مجدداً على مدى هشاشة الوضع الأمني في سوريا، والصعوبات المرتبطة بإعادة بناء أجهزة الدولة بعد عقد من الحرب.
وقبل ذلك، من مجزرة موسكو التي أودت بحياة أكثر من 140 شخصاً في مارس 2024، إلى هجوم نيو أورلينز في نهاية 2024، مروراً بمحاولات إرهابية أُحبطت في أوروبا، تعيد كل تلك الأحداث إلى الواجهة سؤالاً كبيراً: هل انتهى “داعش” فعلاً؟
يبدو أن التنظيم الإرهابي غيّر تكتيكاته ولم يختفِ. بعد انهيار كيانه في العراق وسوريا، تحوّل إلى شبكة لامركزية، تعتمد على الذئاب المنفردة والتحريض الرقمي. أدواته لم تعد المعسكرات والقيادات المركزية، بل الإنترنت، والغرف المغلقة في تطبيقات التواصل المشفر، والمحتوى الدعائي القائم على استغلال التوترات السياسية والدينية حول العالم.
وفي ظل تصاعد الغضب الشعبي في العالم الإسلامي، خاصة مع العدوان الإسرائيلي في غزة، يجد التنظيم بيئة خصبة لإعادة بث رسائله، مستهدفاً الفئات الهشة والمهمشة داخل المجتمعات الغربية نفسها.
وما يزيد من صعوبة التحدي أن غالبية هذه العمليات الإرهابية تتم دون تخطيط مركزي، مما يصعّب على أجهزة الأمن رصدها أو منعها في المهد. فالهجوم في سيدني، رغم ضخامته، لم يكن مسبوقاً بأي إنذار واضح، رغم أن أحد المنفذين كان قد خضع لتحقيقات سابقة. وهذا ما دفع كثيرين للتساؤل عن مدى فعالية آليات الإنذار المبكر، وضرورة تعزيز الرقابة والمتابعة بعد انتهاء التحقيقات الشكلية.
ولا شك أن العمليات الأخيرة تبرز ملامح مرحلة جديدة من “داعش”، تختلف عن تلك التي عرفها العالم بين عامي 2014 و2019. إنها مرحلة “العدو الشبحي”، الذي لا يحتاج إلى خلافة معلنة، بل يكتفي بأفكار مدمرة تتنقل بسهولة بين القارات، وتحول الأفراد إلى قنابل موقوتة، مدفوعة بشعارات متطرفة لا ترى في الآخر إلا هدفاً مشروعاً للقتل.
وبينما تعيش أستراليا حالة من الحداد والقلق، وتحاول سوريا احتواء تداعيات الهجوم، يجد العالم نفسه أمام تحدٍّ مشترك: كيف نواجه تنظيماً لم يعد جيشاً على الأرض، بل فكرة قاتلة تنتشر في العقول؟
الجواب لن يكون أمنياً فقط، بل يحتاج إلى استراتيجية شاملة: تعليمية، اجتماعية، دينية، وأمنية. فـ”داعش” الجديد لم يعد يتقدم بمقاتلين مقنّعين فوق عربات “تويوتا”، بل يتسلل عبر الشاشات، يهمس بالكراهية والحقد في الأذهان القلقة والناقمة، وينتظر لحظة الانفجار القادمة.
وفي هذا السياق العالمي المضطرب، يبرز المغرب كنموذج مضاد لما تسعى إليه التنظيمات الإرهابية. ففي وقت كان فيه العالم يعلن نهاية “داعش”، كانت الأجهزة الأمنية المغربية تواصل عملها الدؤوب، متيقظة لاحتمالات عودة الخطر في شكل جديد.
فقد أظهرت المملكة يقظة استباقية لافتة خلال السنوات الأخيرة، إذ تمكنت من إحباط العديد من المخططات الإرهابية بالغة الخطورة، مؤكدة الجاهزية الأمنية المتواصلة، التي تثبت أن المغرب، رغم بعده الجغرافي عن بؤر النزاع الساخنة، لا يعتبر نفسه بمنأى عن التهديد، ويواصل نهجه الاستباقي القائم على التعاون الاستخباراتي الدولي والتحليل الدقيق لمؤشرات التطرف العابر للحدود.
فبينما تعاني دول أخرى من اختراقات مفاجئة، كان المغرب في طليعة من قرأ مبكراً تحوّل “داعش” إلى تنظيم شبكي غير مركزي، واستعد لذلك بتطوير منظومة شاملة تجمع بين الرصد الاستباقي والتعاون الدولي والتأطير الديني وإعادة الإدماج الاجتماعي، ما مكّنه من تفكيك عشرات الخلايا الإرهابية قبل أن تمر إلى مرحلة التنفيذ.
وقد أكسبت هذه الاستراتيجية المغرب مكانة محترمة على الساحة الدولية في مجال مكافحة الإرهاب، حيث أثنت تقارير دولية على فعالية جهازه الأمني، خصوصًا المكتب المركزي للأبحاث القضائية (BCIJ) والمديرية العامة لمراقبة التراب الوطني (DGST)، لما أظهراه من احترافية في مواجهة الخلايا المتطرفة، بما فيها تلك المرتبطة مباشرة بتنظيم “داعش”.
أكثر من ذلك، يشتغل المغرب على المستوى الفكري والديني أيضًا، عبر تعزيز دور المؤسسات الدينية الرسمية في مواجهة الفكر المتطرف، من خلال تأهيل الأئمة والمرشدين والمرشدات، ونشر خطاب ديني معتدل يواجه السرديات التكفيرية التي يستغلها التنظيم. كما أن برامج إعادة الإدماج، مثل برنامج “مصالحة”، المخصص للمعتقلين السابقين في قضايا الإرهاب، تُعد نموذجًا فريدًا في العالم العربي والإسلامي.
وبفضل هذه المنظومة المتكاملة، استطاع المغرب أن يُشكّل درعًا واقية ترسخ قناعة متزايدة لدى الشركاء الدوليين بأن الرد على تهديدات الإرهاب الشبحي لا يمكن أن يكون أمنيًا فقط، بل يجب أن يكون متعدد الأبعاد، تمامًا كما تطبقه الرباط.
المصدر: هسبريس
