مع فجر الثالث عشر من يونيو دوّت انفجارات متزامنة في مناطق متفرقة من إيران، مستهدفة منازل علماء بارزين في البرنامج النووي. خلال دقائق قُتل تسعة من أصحاب الخبرات الممتدة في تطوير القدرات النووية الإيرانية، في عملية محكمة هدفت إلى منعهم من الهروب أو الاختفاء.
وفي اليوم الحادي عشر بعد الهجوم، وقبل سريان وقف إطلاق النار بوساطة أميركية وقطرية، قُتل عالم نووي عاشر هو سيد صديقي صابر، الذي كانت واشنطن فرضت عليه عقوبات قبل أسابيع بسبب دوره في مشاريع تسليح نووي.
صحيفة “وول ستريت جورنال” كشفت أن العملية وُصفت داخليًا باسم “نارنيا” إشارة تهكمية إلى عالم الخيال لما اتسمت به من طابع مذهل حتى لخطّتها؛ لكنها شكّلت عمليًا تتويجًا لخمس عشرة سنة من محاولات إسرائيلية متواصلة لاستهداف النواة العلمية لبرنامج “أماد” النووي، الذي أقرت الوكالة الدولية للطاقة الذرية بوجوده حتى عام 2003.
رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو قال إن العملية أعادت برنامج إيران النووي سنوات إلى الوراء. وأكد خبراء ومسؤولون سابقون في مجال منع الانتشار النووي أن المستهدفين كانوا من ذوي الخبرات العملية النادرة في تصنيع مكونات الرؤوس النووية، مثل نظم التفجير ومصادر النيوترونات.
ورغم الخسائر مازالت إيران تحتفظ بقسط وافر من المعرفة النووية، بفضل نقلها المنهجي إلى أجيال جديدة عبر مؤسسات أكاديمية، كجامعة الشهيد بهشتي، وجامعة شريف ومالك الأشتر، حيث يعمل أساتذة ذوو صلة مباشرة بالبرنامج النووي على تأطير طلاب دراسات عليا في مشاريع تتداخل بين الأغراض المدنية والعسكرية.
من بين أبرز القتلى محمد مهدي طهرانجي، الخبير في المتفجرات وأحد مساعدي محسن فخري زاده، الذي تحول لاحقاً إلى أستاذ جامعي في الفيزياء. كما قُتل سيد صديقي صابر، رئيس مجموعة “شهيد كريمي”، التي تقود مشاريع التفجير في منظمة “سبند” وريثة برنامج “أماد” وأكدت وزارة الخزانة الأميركية ارتباطه بأبحاث تساهم في تطوير أجهزة التفجير النووي.
ومن الأسماء التي أدرجتها إسرائيل ضمن أولوياتها فريدون عباسي دواني، الرئيس الأسبق لهيئة الطاقة الذرية وأحد مؤسسي مشروع السلاح النووي الإيراني. وكان عباسي نجا من محاولة اغتيال في 2010، وصرح مؤخراً: “إذا طُلب مني بناء قنبلة فسأفعل”.
الضربات الأخيرة تعد أكبر استهداف للعلماء النوويين الإيرانيين منذ مقتل فخري زاده عام 2020 بسلاح يتم التحكم فيه عن بعد. وخلال العقد الماضي اغتيل خمسة علماء آخرين على الأقل، دون أن تعلن إسرائيل مسؤوليتها صراحة.
الضربات لم تقتصر على الأفراد، بل شملت مقار رئيسية كمقر “سبند” في طهران، ومنزلاً آمناً في العاصمة كان يُستخدم لإخفاء أحد العلماء. كما أظهرت صور الأقمار الصناعية دماراً واسعاً في منشآت حساسة، من بينها مفاعل آراك، إلى جانب مقار رسمية وإعلامية.
ورغم حجم الخسائر البشرية مازالت إيران تحتفظ بأرشيف نووي ضخم يوثق أنشطة ما قبل 2003، إلى جانب معدات وأجهزة تخصيب لم يُعلن عنها سابقًا. وقد استولى كوماندوس إسرائيليون عام 2018 على محتوى هذا الأرشيف في عملية سرية داخل طهران، بينما مازالت الوكالة الدولية للطاقة الذرية تطالب بالكشف عن مصير معدات نووية لم يُحدد موقعها.
ويقول محللون إن النظام الإيراني أنشأ شبكة معرفية متكاملة لحماية إرثه النووي، عبر ما يشبه التوريث الأكاديمي المدروس. وقد نشر اثنان من العلماء الذين قُتلوا في يونيو أحمد رضا زلفقاري وعبد الحميد منوچهري دراسة علمية عام 2024 حول سلوك مصادر النيوترونات في التفاعلات المتسلسلة، وهي معلومات يمكن استخدامها في بناء مفاعل مدني أو في تصنيع سلاح نووي.
ويخلص المراقبون إلى أن إسرائيل وجهت ضربة قاسية إلى النخبة العلمية الإيرانية النووية، لكنها لم تقضِ على المعرفة؛ فمازالت طهران تمتلك بنى ومناهج وتقاليد مؤسساتية قادرة على إعادة الإنتاج، وسط خليط من السرية والبراغماتية والإصرار.
المصدر: هسبريس