هذه أبرز الاتجاهات الكبرى في منطقة “الساحل الإفريقي” خلال العام الجاري
قال حمدي عبد الرحمن، أستاذ العلوم السياسية بجامعة زايد بالإمارات العربية المتحدة، إن “منطقة الساحل، الممتدة من شواطئ المحيط الأطلسي إلى البحر الأحمر عند إريتريا بين الصحراء الكبرى والمناطق الاستوائية الإفريقية، تواجه أزمات أمنية وإنسانية مستمرة منذ حصول دولها على الاستقلال في الستينيات”، مشيرا إلى أن “حدة أعمال العنف والصراع والجريمة تصاعدت وتجاوزت الحدود الوطنية وفرضت تحديات كبيرة بالنسبة للأمن الإقليمي والدولي”.
وتطرق حمدي عبد الرحمان، في مقال نشره مركز المستقبل للأبحاث والدراسات المتقدمة، لمجموعة من المحاور المرتبطة بـ”استشراف الاتجاهات الكبرى في الساحل الإفريقي 2024″، خاصة ما يرتبط بـ”تزايد خطر الانقلابات”، و”تمدد التطرف العنيف”، و”تنامي العداء لفرنسا”، و”توسع النفوذ الروسي”، و”تفاقم الآثار المناخية”، و”تزايد معدلات الهجرة”، و”تراجع دور الإيكواس”.
نص المقال:
تواجه منطقة الساحل، الممتدة من شواطئ المحيط الأطلسي إلى البحر الأحمر عند إريتريا بين الصحراء الكبرى والمناطق الاستوائية الإفريقية، أزمات أمنية وإنسانية مستمرة منذ حصول دولها على الاستقلال في الستينيات. وقد أدت عوامل، مثل ضعف بنية الدولة ومؤسسات الحكم والتدهور الاقتصادي وتأثيرات تغير المناخ والتدخل الدولي، إلى تغذية التطرف العنيف في جميع أنحاء المنطقة.
وعلى مدى العقد الماضي، تصاعدت حدة أعمال العنف والصراع والجريمة، وتجاوزت الحدود الوطنية وفرضت تحديات كبيرة بالنسبة للأمن الإقليمي والدولي. ومن الواضح أن بؤر هذه التحديات تقع في منطقتي ليبتاكوغورما وحوض بحيرة تشاد، اللتين تشكلان مركبا أمنيا بالغ التعقيد والتشابك؛ فقد شهدت ليبتاكوغورما، الواقعة في منطقة الساحل الوسطى على الحدود مع بوركينا فاسو ومالي والنيجر، حالة من عدم الاستقرار منذ انهيار الدولة الليبية عام 2011، مما أدى إلى انتشار الأسلحة والمقاتلين المسلحين في المنطقة. كما اندلع تمرد الطوارق في شمال مالي من جديد في عام 2012، في أعقاب تدفق المتطرفين، وأدى إلى سعي الحركة الوطنية لتحرير أزواد إلى الحصول على الحكم الذاتي. وقد مكن الانقلاب اللاحق وانهيار مؤسسات الدولة الحركة الوطنية لتحرير أزواد من إعلان دولة أزواد المستقلة. ودفع ذلك بدوره إلى التدخل الفرنسي والدولي في المنطقة.
وشهد عام 2023 تحولات كبرى في منطقة الساحل أفضت إلى إعادة صياغة الخريطة الجيوسياسية وطبيعة التحالفات الإقليمية والدولية في المنطقة. ويحاول هذا المقال استشراف أهم الاتجاهات الأمنية والجيوسياسية التي من المرجح أن تهيمن على ملامح مستقبل منطقة الساحل الكبرى في عام 2024.
تزايد خطر الانقلابات
شهدت المنطقة، خلال السنوات الثلاث الماضية، ثمانية انقلابات عسكرية؛ وهو ما يجعل من السهولة بمكان التنبؤ بمزيد من “عدوى الانقلابات” في عام 2024، إذ رحبت الجماهير عموما بالقادة العسكريين وكانت الاستجابات الإقليمية والدولية غير فعالة. وتظهر العديد من البلدان نقاط ضعف تجعلها أهدافا محتملة للانقلابات، مثل: الكاميرون، إذ يتسم نظام الرئيس بول بيا، البالغ من العمر 90 عاما بالعجز الواضح على نحو متزايد بسبب الخصومات والانقسامات الداخلية. وفي حين عمل بيا جاهدا من أجل “تحصين” نظامه من الانقلابات، فإن المخاوف الصحية أو العجز الدائم من شأنه أن يترك فراغا في السلطة سوف يدفع بالعسكريين إلى ملئه. وسيتبع ذلك فترة انتقالية عسكرية طويلة ومتقلبة وتغيير كامل للمؤسسات.
وفي عام 2024، من المرجح أن يكون التهديد بالانقلاب هو الأعلى في البلدان الخاضعة بالفعل لمجالس حكم عسكرية، ومن غير المرجح أن تؤدي أية انتخابات إلى انتقال سياسي حقيقي للسلطة وعودة العسكريين إلى ثكناتهم. ويبدو أن المجالس العسكرية غير مستقرة على نحو متزايد في كل من بوركينا فاسو والنيجر ومالي؛ الأمر الذي دفع هذه الدول الثلاث إلى التوقيع على وثيقة ليبتاكوغورما في 16 شتنبر 2023. وسيكون هذا التحالف بمثابة مزيج من الجهود العسكرية والاقتصادية بين هذه الدول.
ومن الملاحظ أن الانقلابات الأخيرة في مختلف دول الساحل الإفريقي تشترك في قضايا أساسية عامة، من المرجح أن تهيمن على مسارات الأحداث في 2024؛ وهي على النحو التالي:
أولا: لا تزال هشاشة أنظمة الحكم، التي شكلتها فترات طويلة من الحكم الاستعماري وما تلاها من أنظمة ما بعد الاستعمار التسلطية، سائدة في معظم بلدان المنطقة. في حين نجحت بعض الدول الإفريقية في إصلاح هياكل الحكم الخاصة بها، والانتقال إلى ديمقراطيات تعددية، فإن أولئك الذين يعانون من خطر الانقلابات غالبا ما يحتفظون بالسلطة داخل نخب حاكمة محدودة، تجمعها روابط مشتركة داخلية أو انتماءات خارجية.
ثانيا: ظهر جيل جديد من القادة الشعبويين الشباب في القارة الإفريقية، كما رأينا في مالي، إذ تقل أعمار نصف السكان تقريبا عن 14 عاما. وقد استغل هؤلاء القادة ثورة الإحباطات المتزايدة لدى الشباب نتيجة عدم حصولهم على فرص أفضل للوصول إلى السلطة غلابا. ومن جهة أخرى، فإن المقاربات الأمنية التي تبنتها الجهات الفاعلة الدولية، مثل: فرنسا والأمم المتحدة والولايات المتحدة، في معالجة التطرف العنيف، لم تسفر عن استقرار حقيقي.
وعلى الرغم من الاستثمارات المالية الكبيرة، فإن النهج الأجنبي قد أدى في المقام الأول إلى تعزيز القدرات العسكرية للجيوش الوطنية دون معالجة الأسباب الجذرية للتمرد والاستياء العام من ضعف الإنجاز وغياب عوائد التنمية. ولعل ذلك كله يعني ضرورة البحث عن رؤى ومقاربات بديلة لتحقيق الأمن والتنمية في دول الساحل؛ وهو ما يحتاج إلى تضافر الجهود الإقليمية والدولية التي من غير المرجح أن تتحقق في عام 2024.
تمدد التطرف العنيف
من المرجح أن تظل منطقة الساحل الإفريقي مركز ثقل للجماعات الجهادية المرتبطة بتنظيميْ “داعش” والقاعدة. وسوف يستغل الإرهابيون هناك فشل وهشاشة الدول والمساحات غير الخاضعة للحكم، والتي تتميز بالحدود التي يسهل اختراقها، وضعف الأجهزة الأمنية والمجالس العسكرية الحاكمة. وستواصل الجماعات الجهادية، بما في ذلك جماعة نصرة الإسلام والمسلمين وولاية الساحل الإسلامية وولاية غرب إفريقيا الإسلامية، العمل مع الإفلات من العقاب تقريبا، مستغلة فرصة عدم الاستقرار السياسي والأمني ووجود مساحات شاسعة غير خاضعة للحكم.
سيستمر التشدد في جميع أنحاء مالي والنيجر وبوركينا فاسو في عام 2024. وسيعمل المسلحون على تعميق موطئ قدمهم الإقليمي وتوسيع عملياتهم وشبكاتهم نحو دول أخرى في غرب إفريقيا. ومن المتوقع أن يتصاعد الفراغ الأمني في المنطقة الحدودية بين الدول الثلاث، إذ يبدو أن المجالس العسكرية غير قادرة على سد الفجوة التي خلّفها رحيل القوات الدولية في عام 2022. ومن خلال إعطاء الأولوية للرد العنيف، ستؤدي تصرفات الجيوش إلى تكثيف استهداف المدنيين والتوترات الطائفية؛ مما يسمح للمسلحين بتعزيز شبكات التجنيد وتثبيت أنظمة حكم بديلة. ومع تشتيت انتباه المجالس العسكرية بسبب التحديات الداخلية، ستستمر الجماعات المسلحة في التوسع نحو مناطق جديدة؛ مما يخلق بؤرا ساخنة جديدة للتشدد، بما في ذلك شمال بنين وتوغو وجنوب غرب مالي وربما جنوب النيجر.
وفي بوركينا فاسو التي تواجه أعمال عنف إرهابية واسعة النطاق امتدت من مالي، عمدت السلطات إلى مضاعفة أعداد المتطوعين في مليشيا الدفاع المدني لتصل إلى نحو 100 ألف كجزء من تعهد الرئيس الانتقالي إبراهيم تراوري باستعادة الأراضي التي استولت عليها الجماعات الإرهابية منذ عام 2015، والتي تصل إلى قرابة 40 في المائة من مساحة البلاد. ويمكن للجماعات المسلحة العنيفة استغلال الفراغ الأمني لبدء عمليات الحصار والاستيلاء في نهاية المطاف على بلدات كبيرة، وفرض سلطتها على مساحات واسعة من الأراضي في شمال مالي أو بوركينا فاسو. ويمكنها بعد ذلك استئناف حملة من الهجمات الإرهابية التي تستهدف المدنيين والمصالح الغربية في باماكو (مالي)، أو واغادوغو (بوركينا فاسو)، أو نيامي (النيجر)، كما حدث بين عامي 2015 و2018.
وإلى جانب حركة الشباب في الصومال، من المرجح أن تظل جماعة نصرة الإسلام والمسلمين من بين أقوى الجماعات المرتبطة بتنظيم القاعدة وتتطلع إلى توسيع عملياتها من منطقة الساحل إلى غرب إفريقيا الساحلية. ونظرا للمرونة التاريخية التي يتمتع بها التنظيم وميله إلى التكيف والتأقلم عندما يُتاح له الملاذ في الدول الفاشلة، كما حدث في دول حزام الانقلابات العسكرية في الساحل وغرب إفريقيا فإن هذه الجماعة الإرهابية سوف تتمدد وتسيطر على مزيد من الأراضي.
تنامي العداء لفرنسا
هناك اتجاه مهم آخر يجب مراقبته في منطقة الساحل في عام 2024، وهو تصاعد المشاعر المعادية لفرنسا؛ فقد أسهمت العوامل الاقتصادية وانعدام الأمن والمظالم التاريخية في تزايد انعدام الثقة في التدخل الأجنبي، وخاصة من قبل فرنسا. والآن، أصبحت استجابة المنطقة للانقلابات العسكرية متأثرة بالمشاعر المعادية لفرنسا، وسوف تشكل معالجة هذه المشاعر أهمية بالغة للحفاظ على الاستقرار. وتضيف جهود الدول الغربية لمواجهة النفوذ الروسي في منطقة الساحل مزيدا من التعقيد في المشهد الجيوسياسي، إذ إن الاستغلال المحتمل للتحديات الاقتصادية والمشاعر المعادية لفرنسا من قبل ضباط الجيش يمكن أن يؤدي إلى مزيد من عدم الاستقرار السياسي؛ وهو ما يستلزم إعادة النظر في المقاربات الأمنية الدولية في المنطقة.
يقول المراقبون الأفارقة والفرنسيون إن فرنسا، تحت ضغط المشاعر المعادية لها في عموم الساحل، تتخلى أخيرا عن تقليد ما بعد الاستعمار الخاص بها المتمثل في رابطة “فرانس أفريك” وهو مصطلح تفوح منه رائحة النفوذ الأبوي وعقد الصفقات الفاسدة بين النخب مع تضاؤل سلطاتها الاقتصادية والسياسية وتزايد نفوذ القوى الدولية الأخرى مثل: الصين وروسيا. وعلى الرغم من ذلك لا تزال فرنسا موجودة في الساحل، إذ لديها قوات عسكرية في تشاد وبعض دول غرب إفريقيا مثل: كوت ديفوار والغابون والسنغال. كما أن هناك الفرنك الفرنسي ونحو 60 في المائة من المتحدثين بالفرنسية يقطنون في إفريقيا؛ بيد أن النقطة الفاصلة، والتي سوف تظهر ملامحها في عام 2024، تتمثل في إعادة صياغة العلاقات الفرنسية الإفريقية بعيدا عن منظور رابطة “فرانس أفريك” بوجهها الاستعماري القديم.
توسع النفوذ الروسي
يعكس التدافع على النفوذ في منطقة الساحل في عام 2024 تفاعلا معقدا بين المنافسة الدولية، في ظل عودة الانقلابات العسكرية وإعادة التنظيم الاستراتيجي للقوى العالمية. وقد واجهت فرنسا، التي كانت فاعلا رئيسيا من الناحية التاريخية، تحديات كبرى، إذ تأثر وجودها العسكري بالانقلابات؛ وهو ما أدى إلى انسحاب قواتها وخسارة الشراكات الاستراتيجية. إن التزام وكالة التنمية الفرنسية باستثمار 100 مليون يورو في مشروعات التنمية في المنطقة يسلط الضوء على تحول فرنسا نحو الشرعية الموجهة نحو التنمية. وفي المقابل، يلاحظ ابتعاد الولايات المتحدة، التي كانت حذرة في ردها على الانقلاب في النيجر واحتفظت بقاعدتها العسكرية في أغاديز، عن موقف فرنسا؛ وهو ما أدى إلى تناقص الثقة بين واشنطن وباريس. ومن ناحية أخرى، تبرز روسيا كفائز كبير، مستفيدة من نهج القوة الناعمة والاستياء المتزايد من السياسات الغربية. ويسهم موقف موسكو بعدم التدخل، إلى جانب المساعدة في تقديم الأسلحة والأمن والغذاء، في زيادة نفوذها في منطقة الساحل. وتعكس الصين، حليفة روسيا، استراتيجية مماثلة، إذ تضع نفسها كأكبر مستثمر أجنبي في إفريقيا وتكتسب السيطرة على سوق النفط في منطقة الساحل من خلال الاستثمارات الاستراتيجية في تشاد والنيجر. فالأهمية الجيوسياسية لمنطقة الساحل، إلى جانب المصالح الاقتصادية والديناميكيات المتطورة للقوة العالمية، تشكل ملامح التكالب الدولي الجديد في المنطقة.
تفاقم الآثار المناخية
بينما تتضافر الجهود العالمية من أجل مواجهة تغير المناخ، فإن ظاهرة الاحتباس الحراري تزيد بنحو 50 في المائة في منطقة الساحل. ونتيجة لذلك، عانت المنطقة من أسوأ حالات الجفاف والفيضانات أكثر من أي مكان آخر على هذا الكوكب. وعلى الرغم من أنها من بين المناطق التي تتسم بوجود أدنى معدلات انبعاثات ثاني أكسيد الكربون في جميع أنحاء العالم، فإن بلدان الساحل تُعد من بين الدول الأكثر تضررا من تغير المناخ. وتعاني دول المنطقة من نقص الغذاء، كما يواجه ملايين الأشخاص في المنطقة انعدام الأمن الغذائي بسبب الجفاف الذي طال أمده، وضعف إمكانية الحصول على الغذاء، وارتفاع أسعار الحبوب، والتدهور البيئي. وقد خلقت أنماط الطقس المتدهورة هذه مجتمعة حلقة مفرغة من الفقر وعدم الاستقرار والعنف الطائفي. وتشير التقديرات إلى أن 13.5 ملايين من الأشخاص الآخرين قد يقعون في براثن الفقر بحلول عام 2050، إذا لم يتم اتخاذ إجراءات عاجلة لمعالجة تغير المناخ.
لقد تحول الوضع من سيئ إلى أسوأ في معظم أنحاء المنطقة، وأصبحت الأزمة حقيقة واقعة بالنسبة لملايين الأشخاص في بلدان الساحل الذين لا يحصلون على مياه الشرب الصالحة ولا على مرافق الصرف الصحي. ونتيجة لذلك، يواجه الناس في المنطقة تفشي أمراض متعددة؛ مثل: الكوليرا والحصبة، وتستمر حالات الأمراض التي يمكن الوقاية منها مثل: شلل الأطفال والملاريا والتهاب السحايا والتهاب الكبد في التزايد. وتضع هذه الأمراض ضغطا كبيرا على أنظمة الرعاية الصحية المحدودة أصلا في المنطقة. وبالمثل، فإن تأثير الأمراض لا يقتصر على الصحة البدنية، بل يمكن أن تكون له أيضا عواقب اجتماعية واقتصادية. فعندما يصاب الأفراد بالمرض، قد لا يتمكنون من العمل أو إعالة أسرهم، مما يؤدي إلى فقدان الدخل وزيادة مستويات الفقر في المنطقة.
وعندما يؤدي تغير المناخ إلى أضرار بالغة، فمن المرجح أن يؤدي فقدان سبل العيش إلى مزيد من عدم الاستقرار السياسي في عام 2024. على سبيل المثال، وجد معهد ستوكهولم الدولي لأبحاث السلام أن تغير المناخ في منطقة الساحل أدى إلى تدهور سبل العيش، والصراعات على الموارد، وتوسيع نطاق تجنيد الجماعات المسلحة. كما حدثت ثمانية انقلابات في دول الساحل كما ذكرنا آنفا خلال السنوات الثلاث الماضية. وعلى نطاق أوسع، يزيد السخط المجتمعي إزاء عدم القدرة على التكيف مع تغير المناخ من احتمال حدوث تغييرات أكثر دراماتيكية في الحكومات خلال الفترة المقبلة.
تزايد معدلات الهجرة
بالإضافة إلى ذلك، تظل منطقة الساحل نقطة عبور رئيسية للمهاجرين من إفريقيا جنوب الصحراء الكبرى إلى الدول الساحلية الشمالية ثم إلى أوروبا. ومن الممكن أن يؤدي المزيد من العنف إلى زيادة كبيرة في معدل النزوح والهجرة من المنطقة؛ وهو ما يؤدي إلى تفاقم الضغوط على الدول الإفريقية الشمالية والساحلية وأوروبا. لقد كانت منطقة الساحل واحدة من المناطق التي تشهد أكبر حركة هجرة على هذا الكوكب. أما في السنوات الأخيرة وفي ظل خطورة الأزمة، فقد تكثف هذا الحراك، سواء على شكل هجرة داخلية أم عبر الساحل أم نحو المغرب العربي.
لقد كانت منطقة المغرب العربي تقليديا نقطة عبور للهجرة من جنوب الصحراء الكبرى في طريقها إلى أوروبا. ومن أجل الوصول إلى هذه الوجهة، هناك ثلاثة طرق رئيسية عبر شمال غرب إفريقيا: الأول والأكثر ازدحاما هو طريق وسط البحر الأبيض المتوسط، الذي يصل إلى إيطاليا أو مالطا عبر ليبيا أو تونس أو الجزائر. أما الطريق الثاني، وهو طريق غرب البحر الأبيض المتوسط، فيصل إلى إسبانيا من الجزائر والمغرب. وأخيرا، يربط طريق غرب إفريقيا المغرب بجزر الكناري الإسبانية. ولذلك، فإن المغرب والجزائر وليبيا وتونس هي مناطق العبور الرئيسية. ومع ذلك، تغيرت، في السنوات الأخيرة، اتجاهات الهجرة في المنطقة؛ فارتفاع مستوى الرخاء والاستقرار في بلدان شمال غرب إفريقيا، فضلا عن الروابط الثقافية والدينية والاقتصادية لهذه الدول مع منطقة الساحل، وتفاقم الأزمة المذكورة، كلها عوامل جعلت من المغرب العربي وجهة للهجرة. ويشجع هذا الاتجاه أيضا إغلاق الحدود في أوروبا وتشديد سياسة الهجرة، مما يجعل من الصعب على المهاجرين الوصول إلى القارة الأوروبية عبر الطرق التقليدية.
إن تعقيد الوضع لا يمكن إنكاره. ولذلك، فمن الضروري أن تكون التدابير المتخذة متعددة الأبعاد. ومن أجل الحد من تدفق الهجرة نحو الشمال، من المهم الحفاظ على الإجراءات الحالية في منطقة الساحل وزيادة التعاون بين الجهات الفاعلة الإقليمية والبلدان المستقبلة للهجرة والعبور والاتحاد الأوروبي. ومع ذلك، فمن غير المرجح أن يكون للاستراتيجيات المعتمدة حاليا في منطقة الساحل تأثير فوري؛ لأن تحقيق الاستقرار يتطلب اتخاذ تدابير مستمرة ومستدامة، وتظهر فعاليتها على المديين المتوسط والطويل. وعليه، فإن الهجرة إلى الشمال أصبحت بالفعل ظاهرة مستمرة ولن تتوقف عن التزايد في السنوات المقبلة. لذا، يتعين على بلدان المغرب العربي أن تواصل وتكثف جهودها للحد من الآثار السلبية المحتملة للهجرة.
تراجع دور “الإيكواس”
أحد الاتجاهات المستقبلية في منطقة الساحل في عام 2024 يرتبط بالديناميكيات المتطورة للمجموعة الاقتصادية لدول غرب إفريقيا “الإيكواس” والتعاون الإقليمي. لقد كشف رد الفعل على انقلاب النيجر عن انقسامات عميقة داخل المجموعة الاقتصادية لدول غرب إفريقيا، إذ دعت الدول الساحلية إلى التدخل؛ بينما رفضت الدول الثلاث الحبيسة، مالي وبوركينا فاسو والنيجر، مثل هذا التدخل. ويؤكد إنشاء تحالف ليبتاكو غورما هذا الانقسام. وبينما يركز هذا التحالف، في البداية، على التعاون الدفاعي والاقتصادي، فإن ظهوره يمكن أن يؤدي إلى تعقيد المفاوضات من أجل التحول الديمقراطي في المنطقة. علاوة على ذلك، تسببت العقوبات التي فرضتها “الإيكواس” في صعوبات كبيرة في النيجر، مع وصول تداعيات سلبية شديدة الوطأة على المجتمعات الحدودية في نيجيريا المجاورة. وقد أدى هذا إلى شلل الاقتصاد عبر الحدود الممتدة بين نيجيريا والنيجر، وتعطيل سبل العيش، وتفاقم التحديات الإنسانية، وتعريض العديد من مشروعات البنية التحتية والغاز التي يمكن أن تعزز التجارة الإقليمية للخطر. في الواقع، من مصلحة المجموعة الاقتصادية لدول غرب إفريقيا التوصل إلى حلول دبلوماسية ملموسة للأزمة مع دول تحالف ليبتاكوغورما، مع الأخذ في الاعتبار الدور الأساسي الذي تؤديه دول هذا التحالف في منع انتشار الإرهاب إلى الدول الساحلية في غرب إفريقيا.
وعلى أية حال، تواجه “الإيكواس”، في عام 2024، ثلاثة سيناريوهات محتملة لدورها المستقبلي في الحوكمة والتعاون الإقليمي: يتمثل أولها في تعزيز الرؤية المدافعة عن المعايير المتفق عليها، مع قيام بقية أعضاء المجموعة بتبني مواقف صارمة ضد التغييرات غير الدستورية من خلال العقوبات والردع العسكري. ويقترح السيناريو الثاني حلولا استباقية، إذ تعالج دول الجماعة الأسباب الجذرية للانقلابات، وتتفاوض على معايير واضحة لإعادة قبول المجالس العسكرية. وأخيرا، يشير سيناريو التفكك المعياري إلى التحول بعيدا عن الطموحات الديمقراطية، مع إعطاء قادة الجماعة الأولوية للتهديدات الملحة والتعجيل بإعادة إدماج المجالس العسكرية، بغض النظر عن عودتها إلى الحكم الديمقراطي. ويتوقف كل سيناريو على عوامل معينة مثل: الدعم الدولي، واستعداد القادة لتقبل المساءلة، والهدف الإقليمي المشترك.
ختاما، تُعد أزمة الساحل واحدة من أخطر الأزمات في العالم؛ ولكنها الأكثر إهمالا. وفي الآونة الأخيرة، تدهور الوضع بشكل كبير، إذ أثبتت المنطقة أنها أرض خصبة للصراع والعنف. ومن المرجح أن يتزايد الصراع في هذه المنطقة، ولاسيما مع تمدد الجماعات المتطرفة المختلفة مثل: بوكو حرام وتنظيم القاعدة والجماعات المرتبطة بتنظيم داعش.
وتواجه مالي، وهي نقطة محورية لعدم الاستقرار في منطقة الساحل، وضعا معقدا في عام 2024؛ فبالإضافة إلى الحرب المستمرة ضد الإرهاب، تواجه مالي عودة الحركة الانفصالية بقيادة تنسيقية حركات أزواد. ويتعرض اتفاق السلام، الذي تم التوصل إليه في عام 2015، لتحديات وضغوط كبرى ازدادت حدة بسبب انسحاب قوات الأمم المتحدة في يونيو 2023. وتسهم القضايا التي لم يتم حلها في مالي بشكل كبير في المشهد غير المستقر لمنطقة الساحل في عام 2024.
وبينما تواجه منطقة الساحل تحديات عام 2024، تظل الحلول الدبلوماسية وقضايا التعاون الإقليمي محورية؛ فالانقسامات داخل مجموعة “الإيكواس”، وتصاعد المشاعر المعادية لفرنسا، والتعقيدات في مالي، إلى جانب قضايا الهجرة والمناخ، تستلزم اتباع نهج أكثر مرونة لمعالجة التحديات السياسية والأمنية. وعلى الرغم من استمرار الشكوك، فإن الالتزام بالجهود التعاونية يوفر الأمل في التغلب على القضايا الملحة التي تواجه منطقة الساحل؛ وبالتالي القارة الإفريقية بشكل عام.
المصدر: هسبريس