لم تعد اللوبيات الاقتصادية في المغرب مجرد مجموعات مصالح داخل قطاعات محددة، بل تحولت، إلى شبكات متداخلة ومعقدة تجمع بين الفاعل الاقتصادي وصانع القرار السياسي. ومع هذا التداخل، أصبحت لهذه الشبكات قدرة متزايدة على التأثير في توجيه السياسات العمومية، خاصة في ظل الحكومة الحالية، والتي تبدو أقرب إلى حكومة رجال الأعمال، حيث يزداد تغولها داخل مسارات التشريع والتنظيم والتسعير والدعم.
هذا التأثير ينعكس بوضوح على الأطر القانونية والتنظيمية التي تكشف، في كثير من الأحيان، عن قوة هذه اللوبيات داخل دوائر القرار. ونتيجة لذلك، فقد توسعت أشكال الاحتكار أو شبه الاحتكار في قطاعات حيوية، ما حد من المنافسة وحول النشاط الاقتصادي نحو منطق الربح السريع، بدل الاستثمار المنتج الذي تحتاجه البلاد لتحقيق تنمية عادلة وشاملة.
ولا يقف الأمر عند هذا الحد، فهذه اللوبيات قادرة على تعطيل إصلاحات مؤسسية ضرورية، سواء تشريعية أو تنظيمية، عبر ممارسة ضغط مستمر على أجهزة الدولة، بل وصل بها الأمر إلى تعطيل أجهزة الرقابة وتعطيل التشريعات الخاصة بمكافحة الفساد، وهو ما أضعف بشكل كبير الحوكمة الاقتصادية وحد من فعالية سياسات مكافحة الفساد، ويعتبر حصول المغرب في 2024، على درجة 37/100 في مؤشر الشفافية الدولية، محتلا بذلك المرتبة 99/180، دليلا ملموسا على السيطرة السياسية للوبيات الاقتصادية وسانديهم النافذين، حيث يستفيدون من توجيه الثروات وكبح جهود المعارضة السياسية، ناهيك عن تقييد الدور الرقابي للصحافة والمجتمع المدني. هذا الوضع أدى إلى توسيع الفوارق الاجتماعية، إذ تحولت مداخيل اقتصادية مهمة إلى أرباح خاصة تراكمها أقلية محدودة، عوض أن توجه نحو البنيات الاجتماعية والدعائم التنموية.
وفي القطاعات الاستراتيجية، يصبح تأثير اللوبيات أكثر وضوحاً. فمع التحكم في أسعار المحروقات والدواء والتأمين، تترك الخدمات الأساسية خاضعة لمنطق السوق، ما يؤدي إلى ارتفاع كلفة النقل والطاقة والصحة. وبذلك تستفيد الطبقات العليا والوسطى، بينما تتضرر الفئات الفقيرة والهشة، سواء في المدن أو في القرى، مما يعيد إنتاج الهشاشة حتى عندما تشير المؤشرات الرسمية إلى انخفاض في الفقر النقدي. وتتجلى الآثار الاجتماعية لهذا الوضع في اتساع فجوة اللامساواة في الدخل وتوزيع الثروة، حيث ارتفع معامل جيني الخاص بالمغرب، والذي يقيس الفوارق العامة في التوزيع الاجتماعي لمستويات المعيشة، من 39.5 نقطة في 2013 إلى 40.5 نقطة في 2022.
هنا تظهر محدودية الاعتماد على المؤشرات الاقتصادية الكلية بصيغتها الحالية. فالنمو الاقتصادي في المغرب، الذي قد يتأرجح خلال السنوات الأخيرة ما بين 3% و5%، وهو ما يعطي صورة إيجابية للوهلة الأولى، لكن ذلك لا يترجم البتة إلى تنمية حقيقية، ناهيك عن الرفاه الاجتماعي المنشود.
تشير توقعات صندوق النقد الدولي إلى أن الاقتصاد المغربي قد يسجل نمواً يقارب 4.4% في 2025. وفي الواقع، بدأت الدينامية فعليا منذ الربع الأول من العام، حين سجل الناتج المحلي الإجمالي ارتفاعا بنسبة 4.8%. لكن هذه المؤشرات الكلية، وإن بدت إيجابية، لا تضمن أن عوائد هذا النمو تذهب إلى الفئات الأوسع، إذ يبدو أن الشركات الكبرى المرتبطة بلوبيات مؤثرة تستحوذ على الجزء الأوفى من المنفعة، بينما تبقى الخدمات الأساسية، مثل الصحة والتعليم، والبنيات التحتية الملحة بعيدة المنال.
إن اللوبيات النافذة، في مجال الأدوية والتأمينات مثلا، حين تحقق أرباحا كبيرة، فهي لا تكتفي باستنزاف الموارد العمومية عبر الصفقات والتعويضات وأموال الدعم، بل تضعف أيضا قدرة الفئات الكادحة على الولوج إلى خدمات صحية وتأمينية ذات جودة. أما لوبيات توزيع المحروقات، حين ترفع أسعار المحروقات، فإنها تزيد الضغط على ميزانيات الأسر محدودة الدخل، وتضعف قدرتها الشرائية، فإذا فلحت حكومة العدالة والتنمية الأولى في قطع الطريق عليها لاستنزافها صندوق المقاصة بسبب الفواتير الوهمية، فقد فتحت لها الباب على مصراعيه كي تفترس القدرة الشرائية للمواطن البسيط دون حسيب أو رقيب، حتى أنها باتت تحقق من الأرباح ما لم تكن تحلم به إبان نظام صندوق المقاصة. ولئن أدى هذا الإصلاح الجزئي، الذي بدأ في 2014 إلى توفير مليارات الدراهم، وتخصيص جزء من المدخرات لأجل بعض البرامج الاجتماعية، إلا أنه زاد من مخاطر الفقر الطاقي، ليفاقم وضع الفئات الفقيرة ويزيد هشاشتها، خاصة في المناطق القروية.
وإذا كان معدل الفقر متعدد الأبعاد يكشف عن انخفاض كبير من 11.9% في 2014 إلى 6.8% في 2024، فإن معدل الفقر النقدي يظل حوالي 4.8% في تقديرات 2025، مع تواجد أكثر من ثلثي الفقراء في الوسط القروي، مما يعكس اختلالا هيكليا في توجيه الاستثمارات والخدمات، حيث تستفيد المدن الكبرى من حضور اللوبيات ومن تركز المشاريع الاقتصادية، مقابل استمرار تهميش الأرياف وغياب العدالة المجالية، بل هناك مدن أشبه بقرى كبيرة، كما هو الشأن بالنسبة لبني ملال، أزيلال، شيشاوة…
ويضاف إلى ذلك أن منطق الربح السريع الذي يحكم سلوك هذه اللوبيات يؤدي إلى تراجع الاستثمار في رأس المال البشري، مثل التعليم، الصحة، البحث العلمي، الابتكار، والبنية الاجتماعية، وهي عناصر حاسمة لأي تنمية مستدامة. ومع مرور الوقت، يتحول الاقتصاد إلى مصدر أرباح مالية، تقتنصها شبكات النفوذ الاقتصادي والسياسي، دون أن تساهم في خلق القيمة، وهو وضع يفقد النمو الاقتصادي قوته الدافعة في تحقيق التراكم التنموي المنشود، بسبب تآكل الطبقة المتوسطة واتساع رقعة الفقر لفائدة اللوبيات النافذة. في الاقتصاد والسياسة، وفي المحصلة، يصبح تأثيرها مؤسسيا عميق الأثر، ففي الوقت الذي تحاول فيه الدول الديمقراطية تطوير تشريعاتها لكبح نفوذ اللوبيات ومراقبة تأثيرها وضبطه، فإن الإطار القانوني، علاوة على النموذج المؤسسي القائم، لازالا عاجزين للحد من هذا النزيف البنيوي المتدفق.
هذا الواقع يولد شعورا متزايدا لدى المواطنين بما يمكن توصيفه ب “الظلم المؤسسي”، وهو شعور تغذيه قناعة بأن السياسات تصاغ لخدمة فئات ضيقة لا تعود بالنفع على عموم المواطنين وبالتالي لا تعكس أولويات المجتمع. أما على المدى المتوسط، فيؤدي ذلك إلى تراجع الثقة في المؤسسات، وارتفاع منسوب الاحتقان الاجتماعي والعزوف عن المشاركة السياسية.
في ضوء هذا الواقع، تبرز حقيقة أساسية، النمو الاقتصادي ليس غاية في حد ذاته، بل يبدو أحيانا بمثابة مؤشر مزيف للواقع. لأنه يخفي مثبطات التنمية المنشودة، والتي تحتاج ديناميكية اقتصادية تخلق توزيعا عادلا للثروة، وحوكمة شفافة، واستثمارا قويا في الإنسان، وضمانا لولوج متكافئ إلى الخدمات والفرص، وكل هذه المحددات الحيوية غائبة جوهريا في مخرجات السياسات العمومية المتبعة حاليا، نتيجة تواطؤ لوبيات اقتصادية مع شخصيات نافذة متحكمة. وكلما ازداد تأثير هاتين الفئتين في توجيه عمل المؤسسات، كلما تراجعت شروط التنمية الحقيقية، وتحول النمو إلى “نمو لوبياتي نفوذي” يخدم أقلية، بدل أن يكون رافعة لرفاه اجتماعي واسع للشعب المغربي.
* ناشط حقوقي وباحث في الاقتصاد السياسي
المصدر: العمق المغربي
