نشطاء ينتقدون “هجوم السلفية” على التدين المحلي الأمازيغي في المغرب
أثار انعقاد “موسم” المرأة المتصوفة “لالة تاعلات” بالجماعة الترابية “تسكدلت” بإقليم اشتوكة آيت باها، واحد من أشهر “المواسم الدينية” بجهة سوس ماسة، وحضره أحمد التوفيق، وزير الأوقاف والشؤون الإسلامية، غضب بعض “الوجوه السلفية” والصفحات المحسوبة على هذا التيار، التي هاجمت هذا الموعد، معتبرة إياه “بدعة وخروجا عن الملة”؛ كما وصفت الطقوس المرافقة له بـ”الطقوس الشركية”، ووصفت زواره بـ”عباد الأضرحة والقبور”؛ فيما انتقد البعض من هؤلاء ما أسموها “مشاهد الاختلاط” التي تعرفها مثل هذه المواسم الدينية.
من جهتهم اعتبر مهتمون بالتاريخ الاجتماعي والديني الأمازيغي أن تنظيم هذه “المواسم” يقع في صلب ثقافة وتدين المجتمع الأمازيغي الذي استطاع تطويع أحكام الدين الإسلامي وفق عاداته وأعرافه الاجتماعية، وبالتالي التأسيس لما يسمى “الإسلام الأمازيغي” القائم على قيم الوسطية والاعتدال التي تتبناها الدولة المغربية نفسها، معتبرين أن موسم “لالة تاعلات” نموذج حي لتكريم المرأة الأمازيغية، ومشددين في الوقت ذاته على أن هذه “الخطابات السلفية” هذه خطابات قديمة جديدة تترجم حسبهم قصور “العقل السلفي” وارتهانه لأفكار “مشرقية” المنشأ.
تواصل حضاري وتكريم للمرأة
إبراهيم الطاهيري، باحث في التاريخ الاجتماعي والديني بسوس، قال إن “الاحتفال بموسم تاعلات هذه السنة يصادف الذكرى الـ237 لوفاة المتصوفة فاطمة بنت محمد تاعلات، التي توفيت في العاشر من شوال سنة 1207 هجرية في منطقة تَاسْـكْدْلْتْ، حسب ما أكده المؤرخ المختار السوسي، ومنذ ذلك الحين دأب الناس في سوس على تخليد هذه الذكرى وربطوها بعاداتهم الاجتماعية، نظرا لمكانة تلك المرأة الصالحة العابدة وتفردها بخصال حميدة، وهي من النساء الفاعلات المُتبرك بهن فِي الجنوب المغربِي، وتشكلت محبتها في الوجدان الروحي للسوسيين منذ عقود بحكم صلاحها وبركتها، ونالت عندهم درجة كبرى وتشريفا نظير ما قدمته في سبيل الإصلاح ومحبتها للقرآن وأهله”.
وحول سر “الهجوم السلفي المتكرر” على تنظيم هذا الموسم وغيره من المواسم الدينية الأخرى المعروفة في مجال سوس، أوضح الطاهيري، في تصريح لهسبريس، أن “الخطاب السلفي يعيش نوعا من الانحطاط والبؤس الفكري، ويبحث له عن موطئ قدم في المشهد التداولي، فتراه كل مرة يتهجم بدون وازع ولا منهج ولا أسلوب على العادات الاجتماعية، وعلى كل الأنماط الثقافية التي لها صلة بالإنسان والأرض والمجال”.
وأكد المتحدث ذاته أن “هذه العادات العرفية الاحتفالية لا تتعارض ولا تتناقض مع القيم السمحة لمقاصد الشريعة، لكن هذا الفكر المنغلق والمتطرف يتمادى في النكوص والانزواء في الفكر الواحد، دون دليل ولا حجة على ما يدعيه”، وزاد: “ثم إن موسم تاعلات يخلد منذ أكثر من قرن ونصف، ويحضره علماء وفقهاء كبار، وهو موسم يوصف بأنه الموسم الأعظم لفقهاء وطلبة سوس، ولو كان فيه ما يدعون لما استمر ولما حضره الفقهاء وأهل القرآن”.
واعتبر الباحث ذاته أن “فشل هذا الخطاب يفسره الواقع، فرغم استمرارهم في التهجم والقذف يستمر الموسم ويتعلق الناس به ويسعون إلى تثبيته، فلما كان موسما خاصا بطلبة وفقهاء سوس أصبح اليوم محج الفقهاء من كل أقطار المغرب، بل ومن الدول الإفريقية، حيث حضر إليه هذه السنة العشرات من الطلبة من السنغال ومالي والنيجر وغينيا، ما يؤكد أن موسم لالة تاعلات يشكل اليوم منارة ورباطا للتواصل الحضاري والثقافي والديني بين المغرب ودول الساحل وجنوب الصحراء، ما يدل على أنه يلعب دورا بارزا في سياسية الدولة القائمة على الانفتاح على المحيط الثقافي للبلاد”.
كما شدد الطاهيري على أن “ما يؤكد النمط الديني وعراقة العادة والعرف الأمازيغيين أنه يتم تقديس المرأة قبل ظهور عيدها الأممي في 8 مارس، إذ توجد الكثير من النساء المتبرك بهن في سوس، وخُلد اسم الكثير منهن في سجل التاريخ، مثل لالة تعزة تاسملالت، ولالة فاضمة سليمان بأنزي، ولالة تاعلات”، مشيرا إلى أن “موسم هذه الأخيرة يشكل صورة حية لتكريم النساء في سوس، ومكانته في عرف القبيلة السوسية اعتراف وعرفان لما تقدمه المرأة من تضحيات كبيرة في سبيل الوطن والأسرة، وفي بناء المجتمعات وتنميتها وحضارتها”.
وخلص المصرح لهسبريس إلى أن “هذا الموسم الأمازيغي بصيغة المؤنث يتميز بميزة خاصة، حيث يتم بيع جميع أصناف الكتب والمخطوطات، وإن دل هذا على شيء فإنما يدل على القيمة التي تحظى بها المرأة في المقدس الأمازيغي، إذ تقترن بالثقافة والمعرفة وعالم الكتاب والطباعة والمخطوطات، في وقت تعاني في بعض المجتمعات من المأساة والاحتقار والعنف المادي والرمزي، إما لأسباب دينية أو ثقافية أو تاريخية أو اجتماعية؛ في حين أن الأمازيغ جعلوا منها رمزا للفخر والحرية والقيادة والزعامة الدينية وحتى السياسية”.
صراع متجدد
قال عبد الله بوشطارت، دكتور باحث في التاريخ، إن “هذا صراع تاريخي قديم وليس وليد اللحظة، إذ يعود تاريخه إلى وصول أفكار التيار الوهابي والسلفي للمغرب خلال نهاية القرن الثامن عشر، حتى إن السلطان مولاي سليمان اقتنع بهذه الأفكار وحاول رفض تنظيم بعض المواسم الدينية حينها”، وزاد: “كما تفجر هذا الصراع بشدة بين السلفية المتشددة الوافدة من المشرق والإسلام الأمازيغي المغربي منذ اللحظة الأولى لنشأة ما تسمى الحركة الوطنية بالمغرب نهاية العشرينيات من القرن الماضي”.
وأضاف بوشطارت أن “هذه الأفكار السلفية المنغلقة كانت سبب الصراع بين العلامة والمؤرخ المختار السوسي وبعض الشباب من أبناء فاس والرباط الذين اقتنعوا بهذه الأفكار، بحكم أن الأول كان ينتمي إلى الزاوية الدرقاوية التي أسسها والده الحاج علي الدرقاوي في سوس، وكان شباب السلفية الوطنية آنذاك يعتبرون أن الطرق الصوفية بدعة، ويدعون إلى محاربتها وإغلاقها، كما يناهضون تنظيم المواسم الدينية بالأضرحة والمزارات كما اعتاد المغاربة منذ قرون طويلة”.
وأوضح المصرح لهسبريس أن “هذا الصراع القديم يتجدد في كل لحظة، بين منظومتين مختلفتين ومتناقضتين، بين السلفية الوهابية المستوردة من المشرق وبين منظومة الإسلام المغربي المحلي الذي تعايش مع خصوصيات ثقافية مغربية منذ أبعد الفترات، ونسميه نحن الإسلام الأمازيغي، لأنه حصل تمازج واستيعاب بين الإسلام كدين وشرائع وأحكام وبين الثقافة الأمازيغية كأعراف وعادات وطقوس ولغة وحضارة، وبالتالي تم التأسيس لنموذج من التدين المحلي المنفتح والمتسامح والقائم على الوسطية والاعتدال”.
ولفت الباحث ذاته إلى أنه “من بين نماذج هذا التأقلم: الطرق الصوفية وظاهرة الصلاح والبركة والولاية التي يتشبث بها الأمازيغ بشدة، فزيارة الأضرحة وتقديسها والعناية بها هي ميزة المجتمعات الأمازيغية، ولها ارتباط بتاريخ الديانات في شمال إفريقياـ وأيضاً بمراحل تحول الأمازيغ من اعتناق ديانات محلية إلى اعتناق ديانات سماوية”، مشيرا إلى أن “عملية التحول من دين إلى آخر مرت عبر فترات تاريخيّة طويلة وبصعوبات كبيرة، لذلك تركت امتدادات ثقافية في المجتمع وأصبحت بنيات ثقافية قائمة لم يستطع الإسلام محاربتها وإنما تأقلم معها لكي يستطيع الانتشار داخل المجتمعات الأمازيغية في الجبال والواحات والصحراء”.
وأوضح المتحدث ذاته أن “العلماء والفقهاء المتمكنين من الشريعة والفقه لم يَنهوا عن هذه الممارسات الثقافية في الإسلام الأمازيغي، التي تعتبر اليوم من خصوصيات المغرب في الانفتاح والوسطية والاعتدال، كما أن المذهب المالكي نفسه لا يعارضها”، معتبرا أنه “مع انتشار المد السلفي والوهابي المنغلق بفعل الانفجار التكنولوجي والتواصل الفوري أصبح البعض يهاجم الممارسات الثقافية التي تدخل في صميم الإسلام الأمازيغي الذي يعطي للمغرب الفرادة والقوة والصلابة”.
ودعا الباحث عينه “الدولة المغربية والمجتمع إلى التصدي لهؤلاء لأنهم ينشرون أفكار الانغلاق والكراهية ويروجون لأفكار بعيدة كل البعد عن البيئة المغربية بمهاجمة العلماء والفقهاء، ولم يسلم من هجومهم حتى وزير الأوقاف الذي حضر موسم تاعلات في زيارة رسمية، وبالتالي فهم يهددون اللحمة الوطنية وأسس الإسلام المعتدل والوسطي الذي يدعو إلى الانفتاح والليونة والتسامح، وإلى احترام الخصوصيات الثقافية”.
المصدر: هسبريس