مَوْعود
بقدر ما كان السفر في هذه الفترة من العام ممتعا جدا ويمنحني طاقة رائعة لكي أواظب على نشاطي وحيويتي طيلة السنة بقدر ما أجده الآن بئيسا وأشعر بصعوبة بالغة في قيادة سيارتي اتجاه مدينة تطوان… بعض السفريات خُلقت لتكون النافذة التي نطل من خلالها إلى عوالم خفية من زمن سحيق يقبع في ركن من الذاكرة… لم أصطحب معي في سفري سوى فنجان قهوة سوداء طلبته سريعا من المقهى القريبة من البيت وشريط موعود لعبد الحليم حافظ، كان الطريق السيار شبه فارغ فجر هذا الصباح، شعرت أن السيارة متحمسة جدا تسير بسرعة مجنونة نحو الأمام بينما الذاكرة وبنفس السرعة كانت تجري في الاتجاه المعاكس نحو الوراء كسفينة تمخر عباب بحر هائج اتجاه ماض سحيق…
أغنية موعود التي شغلتها الآن على جهاز كاسيت السيارة تقودني إلى أوائل التسعينيات من القرن الماضي حين جلست فتاة أنيقة جدا بجانبي في الحافلة المتجهة إلى الجامعة، رأيت صاحبتي منسجمة جدا مع أغنية موعود، ولأن بعض الصدف لا تتكرر إلا مرة واحدة في العمر، لم تطاوعني نفسي أن أنزل من الحافلة حين وصلتْ إلى كلية العلوم وفضلتُ أن أمكث أكثر إلى غاية المحطة الأخيرة… لمحت فجأة الخيبة والإحباط يرتسمان على ملامح وجه صاحبتي الجميل حين وصلت الحافلة إلى كلية الآداب بمرتيل بينما الأغنية مازالت في بدايتها الأولى… نزلت هي وعدت أنا أدراجي إلى كلية العلوم…
بعد أسبوع كنت في كلية الآداب لكي أشارك رفقة مجموعة من الرفاق في أمسية شعرية من تنظيم الاتحاد الوطني لطلبة المغرب… قرأت قصائدي بسهولة ويسر على جمهور الطلبة الغفير لكني صرت فجأة أتلعثم في القصيدة الأخيرة وتبعثرت أوراقي وقافيتي حين لمحت من بعيد صاحبتي بين جمهور الحاضرين! اكتشفت يومها من خلال مداخلتها حول مناقشة النصوص أنها تمتلك ثقافة شعرية رهيبة… عند انتهاء الأمسية التقينا في ساحة الجامعة، لأول مرة رأيت ابتسامتها الفاتنة وهي تمد كفّها لمصافحتي… فقلتِ:
دعني أهنئك على قصائدك الجميلة
ممنون لكِ وأنا أيضا أهنئك على قراءتك الجيدة للنصوص…
ابتسمتِ وقلتِ بتواضع مبالغ فيه:
لكني لست شاعرة مثلك
بل أنت أجمل وأرق قصيدة…
لم يسبق لي أن رأيت امرأة منحها تورد خديها خجلا جمالا خارقا كهذا الجمال الذي أراه أمامي الآن… هذه الأمازيغية القادمة من تخوم جبال الريف تحمل في جيناتها عبير الموريسكيين المطرودين من الفردوس المفقود… عيناها الخضراوان الواسعتان وشعرها الأشقر يتراقص على إيقاع نسيم هواء بحر مرتيل وبشرتها البيضاء تصير أشهى حين تنعكس عليها حمرة شمس المغيب، شعرت يومها أن كل الظروف كانت متواطئة معي لكي نبقى معا أطول وقت ممكن؛ ففي اللحظة التي عزمت فيها على الرحيل صار المطر يهطل بغزارة فولجنا معا مقهى تطل على البحر… أدركت للوهلة الأولى أن مقامنا في المقهى سيطول أكثر إلى أن ينتهي عبد الحليم من رائعته “موعود”… ما أجمل الصدف حينما تبتسم! قلتُ لك:
أليس غريبا أن نمكث مع بعض كل هذه المدة ولا أعرف اسمك!
قلتِ بغنج وابتسامة لذيذة:
لو كنتُ قصيدة كما ادعيت قبل قليل فلن يُغلب شاعر مثلك أن يجد لها اسما…
لم أفكر كثيرا، سرعان ما نطّ اسمك من بين شفتيّ كزقزقة عصفور، فقلتُ بدون وعي مني…
إنك… “موعود”.
أي فرح طفولي جميل هذا الذي أراه في عينيك وقد راقك اسمك الجديد… عشت أجمل وأروع أيامي وأنا مثل مرسول الحب أتنقل بين موعود في نسختها الأولى والثانية… أتنقل بين موعود الغنوة وموعود الحبيبة، صرتما مثل التوأم فلا يمكن أن تخطر على بالك الأولى حتى تتذكر الثانية…
قبيل نهاية السنة الجامعية رأيت الخوف في عينيك وقلتِ:
كل قصص الحب الخالدة لا تعرف نهاية سعيدة هكذا يقول تاريخ من سبقونا وقد لن نكون نحن استثناء… لكن سيظل سرنا الجميل معنا لن يهزمه الزمن ولن ينال منه العمر… فكلما سمعتُ أو شاهدتُ أو مررتُ أو حتى تخيلتُ موعود تذكرتك أنت… هذا هو سرنا الذي لن نفرط فيه.
آه عزيزتي موعود هل تراك بعد مرور أكثر من ثلاثة عقود من الزمن مازلت تتذكرين السر الذي نتقاسمه معا؟ إنه حبرنا السري الذي لا يستطيع أحد في الدنيا قراءته… فقط أنا وأنت من يملك مفتاح هذا الحبر وشفرته… تمنيت لو كنت معي في السنة الماضية حينما كنت بصدد توقيع ديواني الشعري الأخير “موعود” فسألني مراسل جريدة “عادة ما يكون اسم الديوان يحمل عنوان قصيدة من قصائد المنجز الشعري لكن لا توجد قصيدة بعنوان موعود”، وددت لو أخبرته بأني لم أكتب الديوان إلا من أجل هذا العنوان، لو علم ما في نفسي لوجد موعود في كل قافية من قصائدي، لم أتفاعل مع سؤاله فلن أبوح أبدا بسر أسرار حياتي… عنوان كتابي رسالتي المشفرة إليك، فهل تراك يوما سيصلك ديواني ورسالتي؟ مستعد أن أعطي نصف عمري وأعلم!
منذ أمس، ذاك البركان الخامد في أعماق النفس اشتغل فجأة وصارت تطفو على السطح حمم ولهيب الذكريات… قلت لي ذات لقاء:
أريد أن أموت وأنا في كامل زينتي… لا أريد أن يهزمني المرض!
قرأت بالصدفة ليلة أمس في فيسبوك خبر نعيك، لقد توقفت فجأة نبضات قلبك حين كنت نجمة حفل أقيم من أجل الاحتفاء بك بمناسبة حصولك على التقاعد النسبي… أتصور أنك تعطرت بأرقى العطور ولبست يومها أجمل فساتينك… لقد غادرت وأنت في كامل زينتك كما تمنيت… ما أقسى أن نشتهي الموت فيستجيب القدر…
لم أشأ أن أتخلف عن حضور جنازتك هذا الصباح… أخذت عنوان منزلك من الموقع الذي نشر خبر نعيك ركبت سيارتي نحو تطوان…
وجدت الباب مشرعا فتسللت بين زحمة الناس إلى الداخل، ربما كنت أحتاج إلى بعض الوقت لكي أستوعب أنني صرت في بيتك… من يصدق هذا؟ ما كان بالأمس مستحيلا صار اليوم ممكنا، الموت يمنحك مفاتيح الأقفال لا تمنحها لك الحياة…
صرت أجول ببصري بين كل أركان البيت كنت أبحث عنك أبحث عن بصمتك في تأثيث فضاء المنزل؛ طلاء الجدران ولون ستائر النوافذ والشرفة أكيد من اختيارك أنت، خبرتك تفضلين الألوان الهادئة والرومانسية وتلك المزهرية ذات الوردتين من نوع التوليب الفاتنة على طرف المكتب من تصميمك أنت لم تغريك يوما الورود البلاستيكية البشعة… وقع بصري على مكتبة حائطية زينت الجزء الأهم من غرفة الجلوس كنت متيقنا أنك أنت صاحبة هذا الاختيار… نهضت من مكاني واقتربت أكثر من المكتبة وكطفل بعينين جاحظتين وثغر مفتوح غلبته دهشة الحياة مددت يدي المرتعشة نحو الكتاب الذي يتوسط المكتبة، تجمدت أطرافي وأنا أقرأ العنوان… “موعود”.
كنت مستعدا أن أدفع نصف عمري لكي أعلم هل ديواني ورسالتي المشفرة قد وصلت إليك وها أنت تدفعين العمر كله لكي أعلم… فما أكرمك وما أبخلني.
موعود، لأول مرة أنا وأنت تحت سقف واحد، الشيء الذي عجزت عنه الحياة صار ممكنا في حضرة الموت… رأيت فتاة في العشرينيات من عمرها تقترب مني تلبس فستانا أسود، صُدمت من قوة الشبه بينها وبين موعود فقالت لي بنبرة حزينة:
شكر الله سعيك سيدي… الحزن الكبير الذي رأيته في ملامح وجهك منذ دخولك البيت يثير فضولي، فمن أنت؟
أنا يا ابنتي غريب في مأتم، وأنت من تكونين؟
أنا البنت الوحيدة للمرحومة واسمي موعود…
ضممت موعود إلى صدري وأطلقت العنان أخيرا لدموعي… كان من المفروض أني أتيت لكي أعزيها فصارت هي من يعزيني…
(*) روائي مغربي مقيم بهولندا
مَوْعود .
المصدر: هسبريس