قال الأكاديمي المغربي الحسن بوقنطار إن المؤتمر الدولي رفيع المستوى حول التسوية السلمية للقضية الفلسطينية وحل الدولتين، المزمع عقده يوم 22 شتنبر الحالي في مقر الأمم المتحدة، “ينعقد في سياق بالغ التعقيد بفعل العدوان الإسرائيلي المتواصل على غزة والاعتداءات ضد الضفة الغربية”، مضيفًا أن ذلك يثير “تساؤلات حول قدرة المجتمع الدولي على إلزام إسرائيل بالامتثال للشرعية الدولية”.
وأشار الحسن بوقنطار، في مقال له بعنوان “الاعتراف بدولة فلسطين: خطوة إيجابية لكن غير كافية”، إلى أن “موجة الاعترافات بدولة فلسطين ليس لها في اللحظة الحالية إلا تأثير معنوي”، موضّحًا أنها “لا تغيّر واقع الاحتلال لكنها تعبر عن اختيار يقوم على الشجاعة وإذكاء قيم العدالة بدل القوة والهيمنة”.
وتناول الأكاديمي المغربي الموضوعَ من خلال محوريْن رئيسييْن هما “استمرار حرب الإبادة”، و”الاعتراف بدولة فلسطين كضرورة إنسانية وأخلاقية”.
نص المقال:
من المنتظر أن ينعقد المؤتمر الدولي رفيع المستوى حول التسوية السلمية للقضية الفلسطينية وحل الدولتين في 22 شتنبر الحالي في مقر الأمم المتحدة، على هامش الدورة الثمانين للجمعية العامة التي افتتحت في 9 من هذا الشهر، وذلك امتدادا لمقررها الذي تبنت بموجبه، وبأغلبية ساحقة، إعلان نيويورك الذي كان صدر في يوليوز الماضي من طرف 17 دولة؛ وهو الذي نص على “اتخاذ إجراءات جماعية لإنهاء الحرب في غزة وتحقيق تسوية عادلة وسلمية ودائمة للصراع الإسرائيلي الفلسطيني على أساس التنفيذ الفعال لحل الدولتين”، وفي هذا السياق ندد بالهجمات الإسرائيلية على المدنيين والبنيات التحتية المدنية وسياسة الحصار والتجويع، كما أدان في الوقت نفسه حركة حماس وهجوم 7 أكتوبر 2023.
من الواضح أن هذا المؤتمر، الذي سيتميز مبدئيا بإعلان مجموعة من الدول، في مقدمتها فرنسا وبلجيكا وأستراليا وكندا، اعترافها بدولة فلسطين، ينعقد في سياق بالغ التعقيد بفعل العدوان الإسرائيلي المتواصل على غزة، والاعتداءات المتنوعة ضد الضفة الغربية، والرامية في العمق إلى نسف كل مبادرة ترمي إلى تفعيل الدولة الفلسطينية وإعادة تشكيل الشرق الأوسط برمته، وهو الأمر الذي يطرح اليوم عددا من التساؤلات حول قدرة المجتمع الدولي على ردع إسرائيل وإلزامها بالامتثال للشرعية الدولية، وأساسا ما يتعلق بوقف حرب الإبادة التي تمارسها في غزة.
أولا: استمرار حرب الإبادة
منذ 7 أكتوبر 2023 تواصل إسرائيل حربا شاملة ضد القضية الفلسطينية، تتمثل، من جهة، في تدمير وإعادة احتلال غزة بدعوى تحرير الرهائن وتصفية حركة حماس حتى لا تبقى مصدرا لتهديد أمنها، ومن جهة أخرى غض الطرف، إن لم يكن تشجيع كل السلوكات الرسمية وغير الرسمية الرامية إلى خنق الضفة الغربية من خلال توسيع بناء المستوطنات، وتعقيد سبل تحرك السكان الفلسطينيين لحساب المستوطنين الإسرائيليين الذين ضاعفوا من استفزازاتهم وادعاءاتهم بأحقية الاستيلاء على الضفة ارتكازا على خلفيات تاريخية، كل ذلك من أجل إجهاض مشروع بناء الدولة الفلسطينية، كما تنص على ذلك الشرعية الدولية.
من الواضح أن العدوان الإسرائيلي المتواصل لا يمكن أن يبرر كرد فقط على هجمات حماس في 7 أكتوبر 2023، ولا بالرغبة في إطلاق الرهائن، ولا يمكن أن يكيف كحرب بين طرفين. أكثر من أي وقت مضى تزداد المؤشرات على أننا أمام حرب إبادة تمارسها دولة محتلة ضد شعب أعزل، ضاربة بذلك عرض الحائط بالتزاماتها كدولة احتلال، يفرض عليها القانون الدولي، وخاصة القانون الدولي الإنساني، التزامات واضحة لحماية المدنيين وصون كرامتهم. فسياسة التجويع والتهجير القسري والتطهير العرقي وتدمير المنشآت المدنية وعدم التمييز بشكل إرادي بين المقاتلين وبين السكان المدنيين، بمن فيهم الصحفيون والأطباء والأطفال، يدخل بدون شك ضمن جرائم الحرب كما تحددها اتفاقيات جنيف لسنة 1949، وكذا الاتفاقية المتعلقة بمنع جريمة الإبادة الجماعية والمعاقبة عليها، الصادرة في 9 دجنبر 1948، وهي المعاينة التي أكدت عليها مجموعة من التقارير الحقوقية الدولية.
لم يكن هذا العدوان ممكنا بهذه الغلو لولا الشعور الإسرائيلي بالتفوق الجيو استراتيجي، وتولد شعور لدى القيادة الإسرائيلية الحالية أن إسرائيل راكمت من مصادر القوة ما يسمح لها اليوم بأن تضرب في كل مكان، وأن مفهومها للأمن القومي لم يعد محصورا في مواجهة مخاطر الجوار، بل إنه توسع ليشمل فضاء واسعا يتطلب ضربات استباقية للإبقاء على تفوقها الإستراتيجي في مواجهة من تعتبرهم مهددي أمنها، كما فعلت مع إيران وحلفائها، كما هو الأمر بالنسبة لحزب الله الذي كان يمثل الذراع الأمامي وتم إضعافه بشكل واضح بعد اغتيال أهم قادته ودفع السلطات اللبنانية إلى القبول بنزع سلاحه، بل إنها لا تتردد حتى في الاعتداء على من يعتبرون أنفسهم حلفاء للولايات المتحدة، كما وقع بالنسبة للهجوم على قطر الذي خلف استنكارا عالميا واسعا وزاد من التساؤلات والمخاوف حول النوايا الحقيقية للتغول الإسرائيلي الذي بات مصدر تهديد حقيقي إذا لم يتم ردعه بشكل فعلي.
فضلا عن ذلك فإن القيادة الإسرائيلية تستفيد من جهة من الدعم المطلق الذي يقدمه الرئيس الأمريكي دونالد ترامب، الذي يدافع عن نهج يقوم على السلم من خلال القوة، أي إعطاء الامتياز للقوة في مواجهة القانون والقيم، ويعبر مخططه المتعلق بغزة عن عقلية منعش عقاري يتطلع إلى تحويل غزة إلى منتجعات راقية مطلة على شواطئ البحر الأبيض المتوسط، واصفا إياها بريفيرا الشرق الأوسط، غير عابئ بمعاناة ومأساة أكثر من مليوني فلسطيني.
كل ذلك ينضاف إلى غياب وحدة الموقف الفلسطيني وتواضع الرد العربي الإسلامي، المعني أساسا بالقضية الفلسطينية، الذي أصبح مطالبا بالانتقال من ردود الفعل القائمة على بيانات الاستنكار وإعلانات التضامن إلى إجراءات ملموسة وواقعية من شأنها أن تدعم المد الإنساني المناهض لسياسة التدمير الإسرائيلية لكل ما يرمز للهوية الفلسطينية.
فعلا، إن السياسة الإسرائيلية الراهنة، المغالية في العدوان والجنوح نحو الهيمنة والتغول، والمفتقدة لرؤية سياسية لما بعد نهاية العدوان، باتت تواجه استنكارا من طرف المجتمع الدولي. هناك شعور عارم، سواء على المستوى الرسمي أو المستوى الشعبي، بأن هذه الدولة التي نشأت بقرار من الأمم المتحدة في سياق التعاطف مع الانتهاكات الجسيمة التي تعرض لها اليهود خلال الحرب العالمية الثانية باتت اليوم تمارس أفعالا مناهضة لميثاق الأمم المتحدة وللقيم الإنسانية والأخلاقية. لكن ينبغي الإقرار بأن موجة الاستنكار لم تتحول إلى أفعال ملموسة لردع الممارسات الإسرائيلية، بل أكثر من ذلك دفعت الإدارة الأمريكية إلى تبني مواقف أكثر دعما للعدوان الإسرائيلي.
في هذا السياق المعقد تنعقد الجمعية العامة، وبقطع النظر عن محدودية تأثير قراراتها، فإن ما يهيمن عليها هو إعلان مجموعة من الدول، خاصة الغربية منها، عزمها الاعتراف بدولة فلسطين كخطوة ضرورية لتسوية تراعي بعض مبادئ العدالة الدولية.
ثانيا: الاعتراف بدولة فلسطين ضرورة إنسانية وأخلاقية
منذ توقيع اتفاقية غزة وأريحا أولا سنة 1993 ساد الاقتناع بأن مشروع بناء الدولة الفلسطينية بات حلما ممكنا، لكنه سرعان ما سيتبخر، وأفضت التطورات والتغيرات التي عرفتها المنطقة والعالم إلى مزيد من التعقيدات بالنسبة لتفعيله وإخراجه إلى الوجود. ومنذ اغتيال إسحاق رابين، أحد موقعي الاتفاقية المذكورة مع الزعيم الراحل ياسر عرفات، بات واضحا أن اليمين المتطرف الإسرائيلي سيسعى بكل الوسائل إلى نسف حل الدولتين، وساهمت قياداته، خاصة منذ وصول نتنياهو، في هذا المسعى من خلال إضعاف السلطة الوطنية الفلسطينية وتشجيع الحركات المناوئة لها والعمل على تكريس الانقسام بين قطاع غزة والضفة، وهو الأمر الذي تحقق عمليا مع فوز حركة حماس في الانتخابات التشريعية التي جرت سنة 2006، ما أعطى لهذه الأخيرة نوعا من الشرعية. وفي المقابل فإن السلطة الوطنية الفلسطينية، ومن خلالها حركة فتح، فقدت تدريجيا تأثيرها، ما جعل القضية الفلسطينية تتحول تدريجيا إلى مجرد صراع بين حماس وإسرائيل، هذا الصراع الذي سيأخذ طابعا مأساويا بعد العمليات التي قامت بها هذه الأخيرة في 7 أكتوبر 2023، التي صدمت المجتمع الإسرائيلي والغربي عموما، ومكنت اليمين المتطرف، وخاصة الوزير الأول نتنياهو، من ذريعة ليس فقط لتصفية حماس، ولكن في العمق لتصفية الوجود الفلسطيني.
في الوقت الراهن تعترف أكثر من 148 دولة بدولة فلسطين التي تم الإعلان عنها سنة 1988، ورغم ذلك لم تستطع هذه الدولة الانضمام إلى الأمم المتحدة بفعل معارضة الولايات المتحدة التي تملك حق الفيتو في مجلس الأمن، الذي يمثل قناة لا مناص من عدم عرقلتها للحصول على العضوية في هذا المنتظم العالمي.
حتى انتخاب دونالد ترامب ظل الموقف الأمريكي فضفاضا وتكتيكيا، ففي وقت لم يكن يعارض حل الدولتين فإنه كان يعتبر أن ذلك لا ينبغي أن يتم بقرار من مجلس الأمن، وإنما نتيجة مفاوضات بين الفلسطينيين والإسرائيليين، لكن في الوقت الراهن يظهر أن الإدارة الأمريكية الحالية تراجعت عن ذلك، فهي في العمق، على شاكلة إسرائيل، تسعى إلى إقبار مشروع إنشاء دولة فلسطينية. ولا يتردد عدد من المسؤولين الأمريكيين في التصريح بذلك، بل أكثر من ذلك تمكين إسرائيل من كافة الموارد لتنفيذ مخططها التوسعي والهيمني من خلال ضرب كل من تسول له نفسه معارضة هذه التوجهات، سواء بدعوى محاربة مناهضة السامية، أو بدعوى إعادة رسم خريطة المنطقة على أساس التحكم الإسرائيلي.
لكن في الوقت نفسه فإن الإدارة الأمريكية، وفي مقدمتها الرئيس ترامب، لا تملك تصورا واضحا لكيفية تدبير مستقبل العلاقات بين الفلسطينيين وإسرائيل بشكل يخفف من حدة العنف ويفتح أفقا، ولو ضيقا، للسلام، فضلا عن تشجيعه على مواصلة مسلسل التطبيع بين الدول العربية وإسرائيل، خاصة من خلال إدماج المملكة العربية السعودية في سياقاته، وهو المشروع الذي راهن عليه الرئيس ترامب، والذي يوجد اليوم في حالة جمود بفعل الاستياء العارم الذي يسود الشعوب العربية، أسوة بباقي شعوب العالم المؤمنة بعدالة القضية الفلسطينية.
الرئيس الأمريكي، الذي قدم نفسه كرجل السلام ولو بالقوة، يجد نفسه اليوم عاجزا عن تحقيق ذلك، فالسياسة المتطرفة التي يمارسها نتنياهو، وتسعى إلى إدامة الحرب وفتح جبهات حتى مع أتباع الولايات المتحدة، كما هو الأمر بالنسبة للهجوم الأخير على قطر، لا يمكن إلا أن تطرح تساؤلات حول رغبة الولايات المتحدة في حماية أتباعها كلما تعلق الأمر بإسرائيل، فالسياسة العدوانية الإسرائيلية تضع تحديات جديدة على الرئيس الأمريكي الذي يدرك أن مظاهر الاستهجان تتصاعد حتى داخل القوى المساندة له في الولايات المتحدة.
وفي الظرفية الراهنة المعقدة فإن اعتراف دول جديدة بالدولة الفلسطينية هو في حد ذاته تحد للولايات المتحدة وإسرائيل اللتين تمارسان كافة أشكال الضغط من أجل منع ذلك.
ومن الواضح أن موجة الاعترافات بدولة فلسطين ليس لها في اللحظة الحالية إلا تأثير معنوي، فهي لا تغير واقع الاحتلال ولا الواقع العصيب الذي تمر به القضية الفلسطينية، لكنها مع ذلك تعبر عن اختيار يقوم على الشجاعة بدل الانتظار والحذر المبالغ فيه، وكذا إذكاء قيم العدالة بدل القوة والهيمنة.
من المؤمل كما فعلت إسبانيا مؤخرا أن تترافق هذه الاعترافات بإجراءات أكثر نجاعة، خاصة على المستوى الأوروبي، من قبيل وقف تزويد إسرائيل بالأسلحة، واتخاذ عقوبات اقتصادية، ومراجعة الاتفاقيات الامتيازية المبرمة معها، وتدعيم المحكمة الجنائية الدولية من أجل التحقيق في الجرائم التي ترتكبها إسرائيل ومتابعة مرتكبيها، وكذا تدعيم مبادرات المجتمع المدني الرمزية من أجل فك الحصار عن غزة.
ليست القضية الفلسطينية وحدها التي توجد في مفترق الطرق، فالنظام الدولي برمته أمام تحد وجودي بين انتصار منطق القوة والهيمنة أو سيادة منطق الحوار والسلم والعدالة والتضامن الإنساني.
المصدر: هسبريس