من كندا إلى غزة .. “التراماسكية” تعيد تشكيل الجغرافيا السياسية العالمية

أثار الرئيس الأمريكي دونالد ترامب جدلًا واسعًا بسبب تصريحاته حول قضايا دولية حساسة، من بينها العلاقة مع كندا، والسيطرة على قناة بنما، والاستحواذ على غرينلاند، وطرح رؤى جديدة بشأن قطاع غزة. لم تكن هذه المواقف مجرد مزايدات سياسية، بل جزءًا من استراتيجية محسوبة تجمع بين التصعيد والتهدئة، بهدف إعادة رسم حدود النفوذ الأمريكي عالميًا.
إلى جانب ذلك، لم يعد ترامب وحده في رسم السياسة الخارجية، بل بات رجال الأعمال النافذون، وعلى رأسهم إيلون ماسك، يلعبون دورًا متزايد الأهمية. يتجلى هذا في تصعيد الولايات المتحدة ضد دول بعينها، مما يعكس النفوذ المتنامي لماسك، الذي أصبح فاعلًا رئيسيًا في السياسة الدولية، مستفيدًا من علاقاته داخل إدارة ترامب.
تناول موقع “STRATEGIKA 51” هذه التطورات في مقال تحليلي، موضحًا أن “التراماسكية” ليست مجرد مناورة إعلامية، بل توجه استراتيجي جديد يُعيد تشكيل السياسة الأمريكية في سياق عالمي متغير.
نص المقال:
يمكن وصف تصريحات الرئيس الأمريكي دونالد ترامب، بشأن كندا، بنما، غرينلاند، قطاع غزة، وأوكرانيا، بأنها لغة تخريبية لا تهدف إلى الاستفزاز بقدر ما تهدف إلى طمس خطوط الفصل. بهذا المعنى، يتحدى النهج الترامبي (الإيلونماسكي) الصور النمطية من خلال اختيار حركة مزدوجة: تصعيد واضح للتهديدات، بهدف خفض التصعيد وتغيير الوضع وفقًا للمصلحة المنشودة.
إن الخطاب الفوضوي، والغموض الاستراتيجي، والدعاية التحريضية، واستراتيجية التقاء الأضداد، والتأثير الإعلامي القائم على التضخيم ثم الإلغاء، كلها عناصر من الفكر الاستراتيجي الجماعي المستوحى من المبادئ القديمة لـ”سون تزو”، ولكن مع تكييفه مع فعل سياسي ذي طبيعة أيديولوجية. قد يبدو هذا صادمًا بالنظر إلى البراجماتية الأمريكية التقليدية، لكن هذا النهج المثير للجدل، والذي يسبب الإحراج حتى لأتباع الصوابية السياسية، لديه الفضل في تعطيل إدراك الواقع وتفكيك المواقف الراسخة.
كانت بعض التصريحات التي أدلى بها ترامب حول سيادة كندا كافية لإشعال أزمة هوية وجودية داخل المقاطعات العشر والأقاليم الثلاثة. فرغم أن كندا ترتبط سياسيًا واقتصاديًا ارتباطًا وثيقًا بالولايات المتحدة، فإن خطاب ترامب جعل العديد من الكنديين يشعرون بعدم الأمان. وبعيدًا عن التهديد الحقيقي الذي تمثله الحواجز الجمركية التي لوّح بها ترامب في وجه كندا والمكسيك، فإن هذه التصريحات تعمل على زعزعة الأبواب المفتوحة بالفعل، والتي يرفض بعض المحافظين التقليديين في كندا الاعتراف بها.
وتبدو مطالبات ترامب بشأن بنما وغرينلاند أقل إثارة للاستغراب وأكثر انسجامًا مع الواقع الاستراتيجي القائم منذ فترة طويلة. فبالنسبة إلى قناة بنما، تُعدّ هذه الممرات البحرية الحيوية خطًا أحمر لا يمكن للولايات المتحدة أن تتنازل عنه، حتى مع المحاولات الصينية المستقبلية لحفر قناة بديلة عبر نيكاراجوا. أما غرينلاند، فهي بالفعل جزء من الاستراتيجية الأمريكية، رغم تبعيتها الدنماركية. فمن منظور واقعي، يعتبر ترامب أن الدنمارك خاضعة بالفعل للولايات المتحدة، مما يجعل طرح شراء غرينلاند مجرد مناورة إعلامية قائمة على ثقافة “تلفزيون الواقع”، حيث يتم إطلاق تصريحات صادمة دون التزام فعلي بتحقيقها.
يتجاهل ترامب المطالب الاستقلالية لشعب الإنويت في غرينلاند، الذي تحكم عليه الديموغرافيا بالنسيان، نظرًا لانخفاض عدد سكان الجزيرة (حوالي 57 ألف نسمة) ومعدل نمو سكاني ضعيف (0.01%). ومع ذلك، فإن الثروة المعدنية والطاقية الهائلة التي تختزنها غرينلاند، والتي تشمل الفحم، الحديد، الذهب، البلاتين، اليورانيوم، التنتالوم، والماس، تجعلها موضع اهتمام استراتيجي أمريكي متزايد.
أما الخطاب الأكثر إثارة للاضطراب الذي ألقاه ترامب، فيتعلق بـ برميل البارود في الشرق الأوسط. فحديثه عن الاستحواذ الأمريكي على قطاع غزة يقلب الموازين الجيوسياسية، حيث يستهدف تفكيك الإجماع الدولي حول الحلول التقليدية للقضية الفلسطينية. يتعمد ترامب تضخيم فكرة الترحيل الجماعي للفلسطينيين، مما يضع حلفاء واشنطن العرب في موقف محرج ويجبرهم على إعادة النظر في مواقفهم المعلنة تجاه القضية الفلسطينية. هذا التصريح، الذي بدا صادمًا حتى للإسرائيليين، دفع رئيس الوزراء الإسرائيلي إلى الاعتراف بأن “خطة ترامب ليست خالية من الأهمية”.
من خلال هذه الخطوة، يبرز عجز إسرائيل عن القضاء على حماس في غزة، ويقترح ترامب حلًا بديلاً يتمثل في وضع القطاع تحت السيطرة الأمريكية، مع وعود بتحويله إلى “ريفيرا اقتصادية” توفر فرص العمل والاستقرار لسكانه، لكن مع الإبقاء على الغموض بشأن مصيرهم النهائي. هذا الطرح يُجبر الأنظمة العربية المتحالفة مع واشنطن على الخروج من منطقة الراحة التقليدية التي اعتادت العمل ضمنها، ويجعلها تواجه حقيقة تبعية خطابها السياسي بالكامل لواشنطن، رغم ما تبديه ظاهريًا من دعم غير مشروط للقضية الفلسطينية.
هذا الطرح يُعد بمثابة ركلة قوية في عش النمل السياسي في المنطقة، حيث تتقاطع مصالح القوى الكبرى على حساب نزاع مستمر لا نهاية له. بهذا المعنى، فإن التراماسكية ليست مجرد مناورات عشوائية، بل استراتيجية شاملة لإحداث تغيير جذري في التوازنات الإقليمية، لا سيما في الشرق الأوسط، حيث يُتوقع أن تمتد تبعات هذه السياسة إلى إيران وتركيا، مما قد يؤدي إلى إعادة تشكيل المشهد الجيوسياسي بالكامل.
وأخيرًا، فإن محيط ترامب المباشر أصبح الآن عنصرًا أساسيًا في الجغرافيا السياسية، حيث تُظهر تهديدات ترامب الأخيرة ضد جنوب إفريقيا مثلا النفوذ المتزايد لـ”أغنى رجل في العالم” إيلون ماسك على السياسة الخارجية للولايات المتحدة.
إن التخريب السياسي الذي تمارسه إدارة ترامب ليس عشوائيًا، بل هو جزء من خطة محسوبة لإعادة ترتيب الأوراق الدولية، وإجبار الجميع على إعادة النظر في تحالفاتهم التقليدية، وفرض معادلات جديدة لا تخضع للأنماط السياسية المعتادة.
المصدر: هسبريس