الوافد إلى طنجة تكبر غربته؛ بل يتجدد عهده بطرح الأسئلة التي تركها خلفه بلا جواب، معلقة إلى حين؛ مثل تميمة عزيزة في عنق طفل يتيم، سئم من انتظار عودة أبيه. تغريه باحة “سور المعكازين” بامتدادها الذري في معاقل المدينة التي لا تنام إلا لتصحو على إيقاع حركة البواخر في اتجاه الضفة الشمالية.
يستوي أديم الأرض، المتكئة على أرائك الزمن الوردي الذي حمل معه الودائع الرائعة من غير رجعة، لتتم عملية سحب البساط من تحت أقدام الأجيال التي مرت من هنا وانتهى بها المآل مهاجرة في أصقاع المعمور، بحثا عن الأوراق النقدية البديعة، التي استقر عليها البصر في المجلات الأوروبية الملونة التي تفننت الأكشاك في عرضها للبيع في وجه السياح، ونعني بها الدولار وسوى ذلك من العملات الأوروبية الرائعة التي انتهى تداولها في الأسواق بعدما تمت الاستعاضة عنها بالأورو، الوحدة النقدية الأوروبية. يصعب محو صور الجنيه الإنجليزي والفرنك البلجيكي والمارك الألماني والخولد الهولندي من ذاكرة الناس الذين ألفوا الرفاهية التي تجلبها لبيوتهم تلك العملات الأورجبية الساحرة. زمن ألوان النقد الجميلة ولى. لم يعد لها من طيب الذكر سوى ما ظل لاصقا بمغاور ذاكرة المدينة التي يؤمها المغامرون والبحارة والجواسيس على مر الزمان.
“سور المعكازين” بطنجة؛ المكان “الوثني” الذي يقصد رحابه الملأ ليلا ونهارا، ليعتمروا زواياه المطلة على شرفات الزمن الذي مر من هنا خلسة. سرق ويسرق من مآقي العابرين والعابرات سحر صور الماضي، المستند إلى اللحظات القوية التي غذت خيال الناس على امتداد عقود من الزمن. الزمن الموتور بأصوات محركات البواخر التي تعبر المضيق صباحا في اتجاه أندلس خلدها الشعراء في قصيدهم. نعم، تعبر فتعبر معها طيور البجع التي تظللها سقوف المراكب المطلية بالقار. تمضي الأيام مخضبة برائحة البحر وبألوان سراويل “الجينز” الأمريكية الرائعة ورائحة العطور والسجائر المهربة. لا ننسى أيضا أن كثيرا من الطنجاويين عيونهم على البحر، يحذوهم حلم حي “خيمي” الشهير وصفوف دكاكين الهنود بجبل طارق..
لقد اقترن “سور المعكازين” بذكرى العبور الخالد للإنسان في اتجاه الطازج من الأشياء الجميلة التي تعتمر الخيال قبل الفؤاد!
بحثا عن أزمنة متمنعة، عائمة فوق مياه الخليج، يسبر النوتي عباب البحر وكأني به يطارد سرابا في رمال البيداء!
ذكر الاسم الجريح “سور المعكازين” يثير لدى الملأ تلك العاطفة الجياشة التي ما انفكت رسوم وشمها ترسو عميقا في القرار اللانهائي لدى الحالمين بالعبور. يتشكل باستمرار كلما أشرقت الشمس واستوى النهار، معبدا الطريق نحو المدافع الوديعة والفسيفساء وأحجار الصوان الثقيلة.
فكيف يسرق السور المعلوم بجاذبيته وتراخي أيامه النوم من عيون المارة، فيستدرجهم من حيث لا يحتسبون إلى مهاوي التأثير الذي توقعه الأرصفة المرخمة وفق أسلوب بديع، يحمي البريق الأخاذ الذي يصدر عن ألوان الخلود، المفضية إلى الحدائق الخلفية للمدينة؟
حديث الناس عن “سور المعكازين” يجد صداه في مدونة المدينة التي كتب تفاصيلها العابرون من هنا، بحيث أثخنوا الجراح بإلقاء آخر نظرة على البحر، بعد أن اختاروا ركوب موجه وبدون أدنى تردد.. لقد تركوا خلفهم الجغرافية التي خذلتهم، كما تركوا صورة الحي ونار عشق الحبيبة مخبأة في تضاعيف حقيبة السفر. قبل إرسال الشمس لخيوطها الذهبية نحو مدارات “سور المعكازين” يخرج من بين الأرض والسماء السؤال الخالد: كيف يطاوعني أنا الشاهد على سقوط القمر فوق هامات رواد السور البصر لاستعادة سحنات البشر وما علق في الذاكرة من بقايا أمشاج صور الشجر وشرفات الدور بالأحياء القديمة؟
حسبنا رفع التحدي في وجه رياح الشركي الأبية التي تكنس أوراق التوت من شوارع المدينة؛ إنه تلويح بالخسران في وجه المشائين من اللصوص والأفاقين والمومسات وتجار الممنوعات!
تستعيد المدينة بهاءها كلما صدح صوت “منانة السريفية” في فناء مطعم حمادي ذي المعمار الأندلسي بكل تفاصيله المتصلة بالكنبات والكراسي القصبية إلى صورة وصوت المغني الذي يعتمر “رزة شرقاوية” نصف مائلة فوق قنة رأسه!
باب الفحص العملاق
على مسافة بعيدة تتراقص الظلال بين جنبات الجدران السميكة التي أكلتها الرطوبة.. فلول المارة من السياح الأمريكان والإنجليز تمر جماعات وزرافات في اتجاه القصبة، سالكة الأزقة الضيقة، المفعمة بروائح البخور المنبعثة من عمق الدكاكين القديمة.. تتراخى خيوط الشمس عند الظهيرة بباب الفحص، فما أن يقع نظرك على واحدة من الأزقة الضيقة حتى يتسرب الى نفسك الشعور بالانخراط الفعلي، ومن حيث لا تدري في بناء لحظات الاغتراب التي لا معنى لها! قد تعثر على عنوان مقهى صغير أو فندق ذي أسرة محدودة، خارج عن أي تصنيف، لا يتسع فناؤه المفتوح لأكثر من أربعة نزلاء بالكاد!
تفضي تلك الروح المرحة لدى الساكنة إلى مداخل الأدراج الحجرية والمساحات الواطئة بأحياء المدينة القديمة؛ حيث تتراءى مصابيح زرقاء صغيرة، مخبأة في كوات مستديرة، شبيهة بتلك التي تزين بها معابد الهنود القديمة. ترسل ضوءا خافتا في اتجاه المنحدر المبلط بالحجارة وصدفات الرخويات البحرية.. يقترن ذكر هذه الصور العابرة بتاريخ الأحداث التي غطت صفحات مشرقة وكثيرة من سجل مدينة هرقل وابن بطوطة وعبد الله كنون ومحمد شكري وبول بولز وغير هؤلاء، فكان لها ذلك الصيت الذائع، الذي صارت بذكره الركبان.
فندق الشجرة
على مسافة قريبة يرتع القادمون والقادمات من ضواحي طنجة عبر الدواب والحمير أو مشيا على الأقدام في مسيرة جماعية، تطغى عليها مظاهر البهجة رغم كل المعاناة التي يتكبدها هؤلاء وهم في طريقهم إلى فندق الشجرة لعرض ما جلبوه من بيض بلدي ودجاج وأرانب وزبادي وبقوليات.. تقرأ على محياهم وتقاسيم وجوههم فرحا طفوليا خلدته أيامهم الزاهية حتى بات نشيدا موصولا في الزمان والمكان.. النساء الجبليات الرائعات يعتمرن الألوان الزاهية في عز أيام الربيع، الأمر الذي يجعل منهن أيقونات مرابع سوق الشجرة، مسيجات بأصوات الباعة وحنحنة البغال ونهيق الحمير.. تمتد أيام سوق الشجرة إلى ما لا نهاية، وكأن لسان حالها يعلن عن كرنفال لتخليد الأسماء التي رقشت بأرواحها تاريخ المدينة.
فكيف بوسع المدينة حماية نفسها اليوم، أمام كل هذا الامتداد التاريخي والتحدي الثقافي من عاديات العصور الحديثة التي قتلت فينا الهويات؛ واحدة واحدة؟
أما آن الأوان لسردية “سور المعكازين” أن تنقل لنا ولو نزرا يسيرا من تفاصيل قصة الإنسان الذي كابد وكابر كي يكبر فينا السؤال الأبدي حول تغيير الطريق وملء الفراغات بدون لف أو دوران؟
وإلى لقاء قريب
المصدر: هسبريس