الخطاب الملكي الأخير بمناسبة افتتاح البرلمان جاء في لحظة دقيقة يمر منها المغرب، تزامنا مع حراك جيل Z الذي عبر عن حالة وعي جديدة داخل المجتمع المغربي، وعن تحولات عميقة في علاقة الشباب بالمؤسسات والسياسات العمومية. ويمكن القول إن الخطاب عكس استيعابا حكيما لهذا الواقع، من خلال مضامينه المتسمة بالعمق والرزانة، و التي جسدت حرص المؤسسة الملكية على الإنصات للشارع دون انفعال، وتحويل الغضب الاجتماعي إلى فرصة لتصحيح المسار وإعادة بناء الثقة بين الدولة والأجيال الصاعدة.

فمن خلال دعوته إلى تحقيق العدالة الاجتماعية والمجالية، وإلى تعبئة جميع الطاقات الوطنية في سبيل التنمية المتوازنة، وجه عاهل البلاد لالة الملك محمد السادس رسائل واضحة تؤكد أن صوت الشباب قد وصل، وأن المطالب التي عبر عنها الحراك شباب جيل Z ليست موضع تجاهل أو إنكار، بل موضوع معالجة ضمن رؤية شمولية تتجاوز اللحظة الاحتجاجية.

فالخطاب الملكي السامي تناول العدالة الاجتماعية باعتبارها خيار استراتيجي ورهان مصيري، يطلب من جميع الفاعلين الالتزام به وتحويله إلى سياسات واقعية على الأرض تضمن تكافؤ الفرص وتقليص الفوارق المجالية والاجتماعية.

كما شدد الخطاب على ضرورة تأطير المواطنين والتعريف بالمبادرات العمومية والقوانين، في دعوة صريحة إلى تجديد قنوات التواصل بين المؤسسات والمجتمع، وإلى إعادة الاعتبار للإعلام العمومي كجسر تواصلي فعال بين الدولة والمواطنين.

هي إشارة ضمنية إلى أن ضعف التواصل الرسمي هو أحد الأسباب التي غذت عزوف الشباب وشعورهم بالتهميش، وأن إصلاح العلاقة بين الأجيال والمؤسسات يبدأ من بناء الثقة عبر الشفافية والانفتاح.

الخطاب الملكي السامي تطرق أيضا إلى قضايا التشغيل والتعليم والصحة، وهي نفسها العناوين الكبرى التي رفعتها احتجاجات الشباب الأخيرة.

فقد دعا عاهل البلاد إلى تشجيع المبادرات المحلية وتوفير فرص الشغل والنهوض بقطاعات التعليم والصحة وتأهيل المجال الترابي، ما يؤكد أن المؤسسة الملكية تضع المطالب الاجتماعية في صلب الرؤية التنموية الجديدة، بعيدا عن عن منطق الارتجال ووردود الفعل الأمنية الضيقة، ولكن باعتماد مقاربات تنموية وهيكلية تستهدف معالجة الجذور الإشكالات الاي طرحها حراك جل Z.

ولم يفت الخطاب الملكي أن يذكر بمفهوم المغرب الموحد، وبضرورة تغليب المصالح العليا للوطن والمواطنين، في تلميح واضح إلى محاولات بعض الأطراف استغلال الحراك أو ركوب موجة الاحتجاج لإضعاف تماسك الجبهة الداخلية. فبين سطور الخطاب يمكن قراءة تحذير ضمني من الانجرار وراء الدعايات المغرضة التي تسعى إلى تصوير المطالب الاجتماعية كأزمة سياسية أو انفصال عن الدولة، في حين أن المؤسسة الملكية تؤكد أن التماسك الوطني هو الإطار الذي يمهد للإصلاح، وأن الاستقرار هو شرط التنمية وليس عائقا أمامها.

أما حديث عاهل البلاد عن “جيل جديد من برامج التنمية الترابية” فهو بمثابة إعلان عن مرحلة جديدة من الإصلاح، قوامها جعل الشباب في قلب مشروع “المغرب الصاعد”، وإشراكهم في صياغة المستقبل لا الاكتفاء بإسكات أصواتهم. فالمغرب الصاعد ليس مجرد تعبير بل هو رؤية لمغرب جديد منفتح على الكفاءات الشابة، يؤمن بالمواطنة الفاعلة وبالعدالة المكانية والاجتماعية كأرضية للتنمية.

في المجمل، يمكن القول إن الخطاب الملكي جاء متوازنا في لغته وذكيا في توقيته، إذ جمع بين الاعتراف بالمطالب المشروعة لجيل Z وبين الدعوة إلى التعبئة الوطنية الشاملة لمعالجتها. فقد كان خطابا يعكس منطق المؤسسات، الذي يبدأ الإصلاح من خلال المجتمع، فحماية الاستقرار لا تكون بالعنف أو بالتجاهل، بل بالحوار والإنصات والمبادرة.

هي رسائل ملكية تؤكد أن المغرب يختار دائما طريق الإصلاح الهادئ والبناء، ويحول كل أزمة اجتماعية إلى فرصة جديدة لترسيخ دولة الحق والمؤسسات، وتعزيز المسار الديمقراطي باعتباره أحد الثوابت الدستورية التي تعاقد حولها الشعب المغربي.

المصدر: العمق المغربي

شاركها.