شهد المجتمع المغربي في السنوات الأخيرة تحولا في طريقة تدبير الأفراد خلافاتهم الزوجية أو مشاكلهم الشخصية أو العائلية، إذ لم يعد البيت المغربي محصّناً كما كان، ولم يعد ما كان يدور بداخله ضمن دائرة السرية، بل تحولت خصوصيات الحياة الأسرية إلى مادة مفتوحة على العموم عبر مواقع التواصل الاجتماعي، التي تعج بمحتويات تحكي، أو بالأحرى تفضح، أدق أسرار البيوت، محوّلة إياها إلى فرجة عامة قابلة للتفاعل معها تحت مسمى طلب المشورة أو استقراء النصيحة.

وأمام هذا الواقع الرقمي الدخيل على ثقافة المجتمع وتربية الأسر المغربية دق مهتمون ناقوس الخطر إزاء اتساع رقعة هذه السلوكيات التي تمس إحدى ركائز هذا المجتمع، وتساهم في تحويل أسرار ومشاكل، وأحياناً معاناة نفسية وإنسانية، إلى مواد للترفيه الرقمي، مشددين على أن الأصل في العلاقة الزوجية هو الخصوصية، ذلك أن كتمان الأسرار بين الزوجين قيمة أخلاقية راسخة لا يجب أن يزول أثرها، ولو بانتهاء هذه العلاقة بالطلاق.

إشكاليات أخلاقية

خالد التوزاني، أستاذ جامعي رئيس المركز المغربي للاستثمار الثقافي، قال إن “نشر المشاكل الأسرية والخلافات الزوجية على مواقع التواصل الاجتماعي يمثل ظاهرة جديدة وافدة على المجتمع المغربي، فمن ناحية يمكن النظر إليها كتعبير عن حاجة إنسانية لطلب الدعم والاستشارة في مجتمع يتجه نحو الرقمنة، إذ أصبح الفضاء الافتراضي بديلاً عن المجالس التقليدية التي كانت تُطرح فيها المشاكل بشكل محدود وضمن دائرة ضيقة؛ لكن من ناحية أخرى فإن نشر التفاصيل الشخصية الحميمة يثير إشكالات أخلاقية واجتماعية عميقة، خاصة في مجتمع مغربي محافظ يتسم بقيم الاحترام والحياء والحفاظ على حرمة الحياة الخاصة”.

وأضاف التوزاني، في تصريح لهسبريس، أن “نشر المشاكل الزوجية على الملأ يحمل آثاراً سلبية متعددة، منها فقدان الثقة بين الزوجين، فعندما يتحول الخلاف الخاص إلى مادة للنقاش العام قد يفقد الطرفان الثقة في بعضهما، وتتحول العلاقة من شراكة قائمة على الحوار السري إلى صراع علني، إلى جانب التطبيع مع كسر حرمة الحياة الخاصة، بحيث يؤدي انتشار هذه الظاهرة إلى اعتبارها سلوكاً عادياً، ما يهدم قيمة الخصوصية التي حث عليها ديننا الإسلامي”.

وتابع الأكاديمي ذاته بأن “النصائح المقدمة في الفضاءات العامة حول العلاقات الأسرية والزوجية غالباً ما تفتقر إلى الدقة ولا تأخذ بعين الاعتبار السياق الذي أفرزها، وقد لا تناسب خصوصية كل حالة، ما قد يزيد المشكلة تعقيداً، وتتحول هذه النصائح إلى وسائل لتدمير العلاقات الإنسانية وزرع مزيد من الشقاق والخلاف”، مبرزاً أن “هذا الأمر يؤدي أيضاً إلى تشويه صورة الأسر وتسليع المعاناة الإنسانية، بحيث تقوم بعض الصفحات بتحويل المشاكل الأسرية إلى محتوى ترفيهي وتسويقي يجذب التفاعلات والإعجابات”.

وأوضح المتحدث ذاته أن “نشر مشاكل العلاقة الزوجية يؤثر بشكل مباشر في قضية الثقة بين الزوجين وتقليص درجة الأمان، إذ يُفترض أن تقوم هذه العلاقة على السرية والاحترام المتبادل، لكنها عندما تتحول إلى مادة للنقاش العلني في مواقع التواصل الاجتماعي فإن ذلك يهدم أسس الأمان والثقة بين الزوجين؛ كما أن خلق ألفة مع نشر المشاكل الشخصية والاعتياد على مناقشتها مع الغرباء قد يخفف من حساسية المجتمع تجاه انتهاك الخصوصية، وهو أمر مقلق للغاية”.

وشدد التوزاني على أهمية “اللجوء إلى وسائل الإرشاد الأسري المتخصصة والمحترمة، سواء عبر مؤسسات رسمية مثل ‘مراكز الاستماع’، أو عبر علماء النفس والمختصين في الإرشاد الأسري والوساطة الأسرية، وهذا يظل الخيار الأمثل لحل الخلافات الأسرية، بعيداً عن العالم الافتراضي الذي يفتقر إلى الضوابط المهنية والأخلاقية”، مبرزاً أن “القيم المغربية الأصيلة، المستمدة من تعاليم الدين الإسلامي والعادات والأعراف المغربية، تؤكد أهمية الحفاظ على خصوصيات الأسرة وأسرار العلاقات الزوجية، التي تمثل كرامة الفرد وأسرته وعائلته ومحيطه، ولذلك ينبغي إحياء قيم التضامن الاجتماعي بتعزيز دور الأسرة الممتدة والمجالس التقليدية في حل النزاعات مع احترام الخصوصية”.

أضرار اجتماعية

اعتبر الحسين العمري، باحث في علم الاجتماع، أن “العلاقات الزوجية كانت تُعامل في المجتمع المغربي على امتداد التاريخ بقدر كبير من القدسية والاحترام، إذ كانت بيوت الزوجية تُغلق على أسرارها، وكان هناك وعي جماعي بأن الزواج مؤسسة قائمة على المودة والستر، وبأن صيانتها تتطلب ضبط النفس وحفظ الخصوصيات باعتبارها جزءًا من شرف الأسرة وهيبتها الاجتماعية، كونها لبنة المجتمع وأساسه”.

وأضاف العمري في تصريح لهسبريس أنه “مع ظهور مواقع التواصل الاجتماعي أصبحت هذه الأخيرة فضاءً لنشر الخلافات الأسرية والزوجية وفضح الأسرار سواء بين الأزواج أو حتى المطلقين، ليتحول ما كان يُناقش همسًا بين الجدران إلى مادة قابلة للنشر ومفتوحة للتعليق أمام العموم لإبداء الرأي والإفتاء فيها بدون علم ولا اختصاص، وفي ذلك تهديد مباشر للتلاحم الأسري والمجتمعي وضرب لمؤسسة الزواج القائمة على كتم الأسرار والمعاملة بالمعروف وغيرها من القيم التي تضبط وتضمن استمرار هذه المؤسسة الاجتماعية”.

وأوضح المتحدث ذاته أن “فضح الأسرار الزوجية أو التلاسن بين الأزواج أو المطلقين في مواقع التواصل الاجتماعي ظاهرة غير صحية تزيد من تعميق وتقويض الثقة والتوتر والضغط النفسي على جميع أفراد الأسرة، خاصة أن هذه المواد تنتشر بسرعة على المنصات الرقمية، ويصبح من الصعب السيطرة عليها أو حذفها”، مبرزاً أن “التعامل مع المشكلات الزوجية يقتضي عدم إدخال أي أطراف أخرى، خاصة من ذوي عدم الاختصاص أو الخبرة”.

وشدد الباحث في علم الاجتماع على أن “الأسر يجب أن تعي أن الخصوصيات الزوجية لا تُعرض على العامة، لأن من شأن ذلك أن يتسبب في أضرار نفسية واجتماعية طويلة المدى لأحد أطراف العلاقة، وقد يتسبب أيضاً في جرائم”، مشيراً إلى أن “الحفاظ على الخصوصية الأسرية جزء أساسي من بناء مجتمع صحي ومتوازن، فيما صيانة سمعة بيت الزوجية جزء من المسؤولية الأخلاقية للأزواج تجاه المجتمع”.

المصدر: هسبريس

شاركها.